في منتصف القرن الحادي عشر الميلاديّ علتْ ( الليدي غوديفا ) ظهر حصانها عارية أو تكاد في مدينة "كوفنتري" البريطانيّة. هذه المرأة هي زوجة حاكم المدينة الّذي قرّر الترفيع في الضرائب. فكان تعرّيها بمثابة الاحتجاج على هذا القرار. لكنّه احتجاج من نوع خاصّ جدّا!! التعرّي إذن ليس تعبيرة جديدة.. هذا صحيح، لكنّه تعبيرة شاذّة ومستهجنة. لا نمتلك في ثقافتنا سوابق تشير إلى أنّ العري كان في يوم ما عنوان احتجاج أو تمرّد أو رفض. يصدق هذا القول على الرجل والمرأة معا. لكن يبدو أنّنا سنكون مضطرّين مستقبلا للتّعامل مع ظاهرة عري عجيبة غريبة.. عاريات الصدور-أو عاريات النهود على وجه أدقّ- تقليعة جديدة في بلادنا وعليها. تُشهر الفتاة نهديها على الملأ: في الشوارع.. في قاعات الاجتماعات.. أمام المحاكم بل وحتّى أمام الكنائس والمساجد. تعوّدنا أن نرى الفارس يشهر سيفه، والمقاتل يسحب رشّاشه. وعندما يعزّ السلاح، ويتراجع المقاتلون.. نقول إنّ هؤلاء قاتلوا بأظافرهم.. بأهدابهم ورموش عيونهم. لكنّهم أبدا لا يعرضون أجسادهم العارية. بلادنا ولاّدة سبّاقة خلاّقة على الأقلّ في محيطيها العربيّ والإسلاميّ!! نفاخر دوما بأسبقيّتنا على أشقّائنا: نحن أوّل من ألغى الرقّ.. نحن أوّل من وضع دستورا.. نحن أوّل من منع تعدّد الزوجات.. نحن أوّل من أطلق شرارة "الربيع العربيّ".. على هذه الإيقاعات سحبت أمينة فيمن و"زميلاتها" نهودهنّ وأعلنّ الحرب.. اخترن صدورهنّ العارية تعبيرا عن الاحتجاج!! نحن الأوائل دائما؟؟!! في أذهاننا تمتلك عبارة الصدر العاري دلالات إيجابيّة، فعندما نقول إنّ المتظاهرين في تونس مثلا واجهوا سلطة الاستبداد بصدورهم العارية، وتصدّوا لآلة القمع البوليسيّة بصدورهم العارية، فإنّما نعني بذلك أنّهم امتلكوا من روح التحدّي ومضاء العزم وصدق الإيمان ما به استطاعوا أن يَثْبُتوا في وجه سلطة قاهرة رغم أنّهم لا يملكون سلاحا.. سوى صدورهم العارية. للإنسان تاريخ طويل مع التعرّي.. عاش الإنسان حقبة طويلة من تاريخه عاريا أو يكاد.. يذكر علماء الأنثروبولوجيا أنّ قدماء اليونانيين كانوا يمارسون الرياضة وهم عرايا. بل إنّ أصل كلمة "جمنازيوم" هو "تدريب العرايا". لكنّ الأمر كان مقصورا على الرجال، ومُنعت النساء حتّى من متابعة هذه المباريات. ومن الشواهد على ذلك أنّ ما تبقّى من رسوم أوّل ألعاب أولمبيّة، قبل ثلاثة آلاف سنة، يُظهر مصارعين وملاكمين يتنافسون وهم عرايا. ويضيف علماء الإناسة أنّ تعرّى قدماء اليونان كان جزءا من عباداتهم ("كما خلقنى الإلاه"). وحتّى جوائز الألعاب الأولمبيّة كانت تُقدَّم داخل معابد للفائزين وهم عرايا. لكنّ هذا التاريخ يسير وفق خطّ تصاعديّ في اتّجاه الكساء وتجاوز العري لا في اتّجاه المحافظة على الأصل الأوّل. ومع أنّ الدراسات الأنثروبولوجيّة لم تتمكّن من تحديد فترة تاريخية دقيقة لاتّخاذ الإنسان الملابس بديلا من العري.. ولا من تحديد العصر الذي أصبح فيه اللباس عنوان حياء وجزءا من القيم التي تواضع عليها الناس في كلّ المجتمعات البشريّة تقريبا فإنّ الأمر الذي لم يعد موضوع نقاش أنّ الإنسان وضع تقريبا حدود التخفّي والتعرّي لجسده بما يتّفق مع ضروراته المادّيّة أوّلا وبما لا يجيز انتهاك الذوق العامّ ومقتضيات الحياء ثانيا. إذن أصبح الاستتار هو القاعدة منذ آلاف السنين، وغدا التعرّي استثناء ترفضه الأغلبيّة دائما ويعاقب عليه القانون في معظم الأحيان. في أواخر سنة 2012 حُظر التعرّي في مدينة سان فرانسيسكو الأمريكيّة. ورغم أنّ بعض الناس خلعوا ملابسهم احتجاجا، فقد ظلّ القانون ساريا. وفي السنتين الأخيرتين اتّسع نطاق احتجاج العاريات بشكل يدفع إلى التساؤل عمّن يقف وراءهنّ، من الجهة التي تسوّق لهنّ وتموّل أنشطتهنّ وتتكفّل بمصاريف تنقّلاتهنّ وإقاماتهنّ؟ في سنة 2008 تأسّست جماعة (فيمن FEMEN) في كييف، وكان من ضمن أهدافها الرئيسة الدفاع عن حقوق المرأة الأوكرانيّة والتشهير بوكالات الزيجات المرتّبة ومحاربة التمييز على أساس الجنس. ومنذ البداية اختارت هذه المنظّمة -التي أصبحت دوليّة في ظرف وجيز جدّا- الاحتجاج بالجسد العاري كلّيا أو جزئيّا. توسّع نشاط "فيمن" سريعا، وانضمّت إليها فتيات من دول كثيرة، وتوسّعت معها دائرة الاحتجاج لتشمل بلدانا عديدة، وتغطّي مناسبات مختلفة. ففي باريس تعرّت المحتجّات أمام منزل الرئيس السابق لصندوق النقد الدوليّ "دومينيك ستراوس كان" احتجاجا على ما اعتبرنه عمليّات تحرّش جنسيّ واغتصاب قام بها ستراوس في حقّ عدد من النساء.. بالطريقة ذاتها وللأسباب نفسها تقريبا تعرّين في إيطاليا احتجاجا على الفضائح الجنسيّة لرئيس الوزراء الإيطاليّ السابق سيلفيو برلسكوني. في إسطنبول وأمام متحف "آيا صوفيا" نفرت النهود الأوكرانيّة مرّة أخرى احتجاجا على ما اعتبرته الفتيات العاريات اضطهادا للمرأة المسلمة في تركيا. تكرّر الأمر مرّات أخرى في أوكرانيا ومدينة دافوس السويسريّة وفي البرازيل وألمانيا، وفي كلّ مكان استطاعت فيه النهود العارية أن تراوغ رجال الشرطة وتستقدم كاميرات المصوّرين. حكّام تونس الجدد واجهوا هذه النهود العارية مكرهين في عواصم شتّى: الرئيس المنصف المرزوقي في فرنسا، ورئيس الحكومة علي العريض في ألمانيا، ورئيس الحكومة الأسبق حمادي الجبالي في كندا.. من الجائز أنّ بعضنا لم يكن ينتبه كثيرا إلى ما يحدث هناك.. على الضفاف الأخرى.. بعيدا عن بلادنا. فاكتفى بإبداء الدهشة أو الاستياء.. أو التشفّي.. ربّما سخرنا أو ضحكنا كثيرا بسبب الإحراج الذي تعرّض له حكّامنا وردود أفعاله إزاء المفاجأة. ما كان بعيدا أصبح قريبا. فقد عَبَرَ الحدود إلينا؛ وفي غفلة منّا جميعا تسلّل متحدّيا مشاعرنا وقيمنا، لا في قاعة مغلقة وإنّما في الطريق العامّ.. بل أمام المحكمة رمز القانون والعدالة. جاءت العاريات نصيرات لأمينة العارية. هي رفيقتهنّ أو زميلتهنّ في مسيرة النضال التي اختططنها بنهودهنّ.. ملحمة الاحتجاج بالصدر العاري. اعتقلت الشرطة هؤلاء "المناضلات". وهذا عمل منطقيّ جدّا، ولم تكن فيه مخالفة للقانون وللأعراف وللقيم. فلماذا تنافخ بعض الحقوقيّين والديموقراطيّين دفاعا عنهنّ؟!! للتذكير فقط نقول إنّ هؤلاء الفتيات تمّ التعامل معهنّ بقسوة في البرازيل وتركيا وأوكرانيا وروسيا وغيرها من دول العالم التي شاء حظها أن تشهد غزوات النهود العارية. اعتُقلن وفي الغالب كان يتمّ ترحيلهنّ غير مأسوف على نهودهنّ. في تونس حوكمت نساء "فيمن" وحُكم عليهنّ. ونحن الآن في انتظار محاكمة أمينة.. وما أدراك ما أمينة!!! أمينة هذه التي يقول عنها أبواها إنّها مريضة نفسيّة أصبحت مادّة إعلاميّة تثير شهيّة الكتابة.. أمينة التي لا يتعدّى مستواها الثقافيّ الحدود الدنيا تحوّلت بفضل نهديها إلى نجم تُستنفر بسببه الشرطة وتحاصره كاميرات الصحافيّين وأعين الفضوليّين وسباب المحتجّين. كانت "أمينة السبوعي". وغدت "أمينة". نعم.. هكذا بلا لقب لأنّ شهرة صاحبته أغنتنا عنه. تعرّت أمينة من لقبها فغدتْ بلا لقب.. تماما كما تعرّى جسمها أو ضاق صدرها بما حمل.. لم يعد كثيرون ينتبهون إلى لقب (السبوعي) الذي تحمله هذه الفتاة، وفي أقلّ الحالات سوءا نردّد وسائل الإعلام "أمينة فيمن". إذا احتكمنا إلى الرأي المنسوخ للأستاذ راشد الغنّوشي زعيم حركة النهضة الحاكمة، وإذا استندنا إلى مبدإ القياس فإنّنا سنقول إنّ أمينة لم تأت من المرّيخ، ولا قذفت بها رياح آتية من الأقاصي. هي فتاة تونسيّة ولا أرى أنّها في حاجة إلى إثبات نسب، ولا يحقّ لأحد أن يجرّدها من حقّها في المواطنة شأنها شأن غيرها مهما اختلفنا معهم أو تصادمنا. كلّ هذا صحيح. لكنّ المواطنة لا تمنح صاحبها صكّا على بياض، ولا تهبه حصانة تجعله بمنأى عن القانون لا سيّما عندما يتعلّق الأمر بمسالة القيم التي تشكّلت عبر أجيال وحقب، والتي يصبح التعدّي عليها بمثابة فتنة لا تقلّ خطورة في نتائجها البعيدة عن أيّة فتنة أخرى حتّى إن بدت صامتة في تشكّلها واتّساع رقعتها. إنّ هذه القيم التي نعتزّ بها ونؤمن بجدواها، ونرى أنّها مكوّن أساسيّ من مكوّنات شخصيّتنا هي تلك التي عبّرت عنها لوحة رفعتها إحدى المحتجّات أمام قصر عدالتنا تضامنا مع أمينة: "تبّا لقيمكم"!!! وجزء من تلك القيم انتهكتها أولئك الفتيات العاريات أمام سفارة تونس في فرنسا حين أدّين -وهنّ شبه عاريات- سجدة "فيمن".. الله أكبر؟ لا!! "فيمن أكبر"!! هذا ما كانت تلك المناضلات يردّدنه. بئس النضال الذي ينتهك مقدّساتنا. وبئس الاحتجاج الذي يعبث بمشاعرنا الدينيّة. إنّ التعرّي في رأيي كالتطبيع لا يمكن أن يكون وجهة نظر، وهو ليس حقّا حتّى ندافع عنه. إنّما هو اعتداء على القيم والآخلاق والمقدّسات. كما أنّ الصدر العاري لا يبني موقفا ولا يؤسّس لقيمة. قد يثير الدهشة والفضول، ومن الجائز أن يحرّك غريزة أو يسيل لعابا. لكنّه أبدا لا يخاطب عقلا ولا يجلب سوى السخط والاحتقار والاشمئزاز. ولست أدري بعد كلّ هذا ما الّذي يدفع بعض الحقوقيّين وبعض اليساريّين وبعض الليبيراليّين إلى الوقوف إلى جانب أمينة ورفيقاتها بشراسة مستهجنة وتبنّي قضّيّتهنّ والدفاع عن "حقّهنّ في التعبير". أهو الوفاء لمنظومة الحقوق الكونيّة؟ أم مناكفة وإحراج لحكومة النهضة المرتبكة أصلا؟ في الحالتين فإنّ هؤلاء الذين يصرخون دفاعا عن أمينة لا يفعلون أكثر من إثراء الرصيد الانتخابيّ لحركة النهضة أشهرا قبل الانتخابات المتوقّعة، ويؤكّدون أنّهم بارعون في دخول المعارك الخاسرة. إنّهم يعودون إلى نفس الممارسات التي سبقت انتخابات 23 أكتوبر عندما وقفوا إلى جانب "نادية الفاني" في شريطها المستفزّ (لا سيدي لا ربي)، وإلى جانب "قناة نسمة" في عرضها لفيلم الرسوم المتحرّكة (بيرسيبوليس). إنّ الاصطفاف إلى جانب حرّيّة التعبير لا يجب أن يتحوّل إلى اعتداء على المقدّسات والوقوف مع أيّ نشاط مهما كانت درجة استفزازه لمشاعر الناس ومعتقداتهم. كما أنّ التوظيف السياسيّ للصدور العارية يُعتبر غباء لا تحتمله صناديق الاقتراع. أمّا أمينة فهي في نظري قد أخطأت أو أذنبت أو أثِمت أو أجرمت. وعليها أن تدفع ثمن ما اقترفه صدرها.. إلاّ إذا أثبت الطبّ أنّها غير مسؤولة عن أفعالها .. فذلك وجه آخر للحكاية. akarimbenhmida@yahoo.com