المقدمة : شيء من التاريخ القريب قد يفيد من حفر لنفسه خندقاً وانعزل وظل يصرخ من الألم، ويتطلع للتحرير ويصفق بيدٍ واحدة !! حين شعر الزعيم الصيني الكبير "ماو تسي تونغ" وهو في خط الكفاح المسلح ضد حكومة الـ(كومنتانغ) التي يقودها (تشان كاي شيك) ، أن بلاده تواجه خطراً جسيماً يتمثل بالاحتلال الياباني ومحاولات تمزيق الصين، وضع معادلة الصراع في نصابها الصحيح وجمد خلافاته مع "تشنك كاي شك) ليدحر الاحتلال بكل الوسائل الممكنة والمتاحة . شيء من التاريخ .. " ماو تسي تونغ" الزعيم الصيني الكبير وهو يقود مسيرة الكفاح المسلح ضد حكم حزب الـ(كومنتانغ) الرجعي الحاكم في الصين، كان يحشد طاقات الشعب الصيني وفي مقدمتهم الفلاحين للنضال ضد القادة العسكريين المحليين وكبار الملاك والإقطاعيين، وضد قوى الاحتلال الياباني، التي سيطرت على الشمال والوسط والساحل حتى (كانتون) في الجنوب من فيتنام، فضلاً عن كل المدن والمرافئ الكبرى والمنشآت الصناعية والتجارية والمناطق الكثيفة بالسكان، على نحو عجز عنه حزب الـ(كومنتانغ) بزعامة " شيانغ كاي شيك" رئيس القوات المسلحة الصينية. ففي عام 1933 تابعت اليابان زحفها حتى احتلت خمس مقاطعات صينية، وحاولت إقامة دولة تجمعها .. ولم يحرك " شيانغ كاي شيك" قطعة عسكرية واحدة لصد الهجوم الياباني، فيما حافظ على صلات سرية مع أمريكا واليابان ، ووافق على منطقة منزوعة السلاح بينه وبين دولة "ماتشوكو" وهو اعتراف بكيان دولة عميلة في الصين، فيما أبرم عام 1935 معاهدة سرية مع اليابان تنص على اعتبار الصين الشمالية محايدة وتعهد بقمع أي عمل أو تصريح إعلامي معادي لليابان . كان " شيانغ كاي شيك" عاجزاً ومعزولاً عن قوى الشعب، وحكمه ديكتاتورياً فردياً مطلقاً ومقرون بالفوضى وبمحاولات تجزئة البلاد ما بين ( شيوعيين وقوميين وأمراء حرب)، ودستوره كان حبراً على ورق، وإن 70% من اقتصاد الصين في فبضة أربع عائلات وفي مقدمتها عائلة " شيانغ كاي شيك" . إزاء هذه الظروف، طرح الحزب الشيوعي الصيني عام 1936 موضوع (الجبهة المتحدة)، وفي عام 1938، شنت اليابان هجوماً جديداً على الصين .. وفي ظل ظروف هذا الهجوم تم الاتفاق بين (الكومنتانغ) والحزب الشيوعي الصيني، وكان البرنامج قد حدد ثلاثة أهداف (التحرير- الاستقلال- السيادة الوطنية)، على الرغم من أن " ماو تسي تونغ" كان على الضد من " شيانغ كاي شيك" ونقيضه أيديولوجياً وسياسياً، من أجل مواجهة الغزو الياباني الزاحف على أراضي الصين. ماذا نستنتج من هذه المقدمة التاريخية الموجزة المهمة ؟ أولاً- إن التناقض الأساسي هو الذي يكون له الأولوية، التي تتصدر خط النضال الوطني والكفاح المسلح .. أما التناقض الثانوي فلا يمكن أن تكون له الأولوية في ظروف الصراع من أجل التحرير والاستقلال الوطني. ثانياً- إن أيديولوجية القوى الوطنية في البلاد، ينبغي أن لا تكون عائقاً أمام مشترك التحرير، وإن منطلقاتها النظرية والفكرية في التحليل والتفسير والتوصيف لا يجب أن تفكك هدف (المشترك) للتحرير والخلاص الوطني بأي حال. ثالثاً- الحشد الجماهيري ينبغي أن يرتقي إلى مصاف الحشد العسكري في مسيرة متناغمة وقادرة على خلق تشعبات تنظيمية متكاملة في أكثر من ساحة أو مكان لا يسمح بالاختراق عن طريق التحصين التنظيمي الذاتي من جهة، وعزل أو منع تداخل الخنادق في أماكن الحشد (المدن والقرى) في الريف والمدينة . رابعاً- الغزو الأجنبي مهما كان شرساً ودموياً فليس باستطاعته البقاء خلافاً لإرادة الشعب مهما طال الزمن وتعاكست الظروف وتعثرت .. إنها حتمية زوال الاحتلال. خامساً- تطول فترة الاحتلال إذا تفككت قوى الشعب وتناحرت .. عندها تفقد بوصلتها النضالية أو الكفاحية أو الجهادية . سادساً- تقصر فترة بقاء المحتل الغازي إذا توحدت القوى الوطنية على منهج التحرير والخلاص الوطني، ووضعت نصب عينيها هدف التحرير باعتباره يشكل أولوية (رئيسية)، واعتبرت خلافاتها (ثانوية)، وعملت على تجميدها أو دفعها إلى حلها عن طريق الحوار الوطني الهادئ الذي يرجح هدف التحرير على أي هدف آخر. سابعاً- إن أي مكون وطني يصعب عليه لوحده أن يقوم بعملية التحرير، ما دام واقع الصراع يعج بالقوى الوطنية .. وتلك مسًلَمة معروفة .. وما على هذه القوى إلا أن توحد صفوفها في جبهة وطنية صوب هدف التحرير في ضوء ميثاق وطني معلن. ثامناً- إن أي مكون وطني في واقع ما بعد التحرير لا يستطيع أن يتسيد لوحده، إنما يكون لوجود كل المكونات الوطنية المعنى والقدرة على نقل حالة التحرير إلى حالة متقدمة تعزز أهداف الشعب في الحرية والديمقراطية الشعبية والنمو والتطور. تاسعاً- إن قوى التحرير جميعها وبصورة مشتركة لها الأحقية في قيادة البلاد بعد التحرير صوب بناء الأمن والاستقرار والتنمية تحت مقاسات التمثيل الوطني القائم على الوطنية والنزاهة والكفاءة، وعداك ذلك يحسب من مخلفات زمن الاحتلال. عاشراً- مرحلة ما بعد التحرير مرحلة تتأسس على الجمع الوطني، الذي يؤمن بالديمقراطية الشعبية والتداول السلمي للسلطة ( إن ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية وما عاشته الصين الشعبية لحد الآن تختلف عن الظروف التي تعيشها الشعوب التي تعاني من الاحتلال وخاصة الشعب العراقي، الذي يعيش احتلال أجنبي مزدوج أمريكي وإيراني معاً ). ازدواجية احتلال العراق .. كيف تبدو ؟! أولاً- أرغمت المقاومة الوطنية العراقية الباسلة قوات الاحتلال على الرحيل بعد أن كبدتها خسائر جسيمة في الأرواح والمعدات والأموال. ثانياً- قرار مغادرة القوات الأمريكية كان يتضمن : 1- بقاء قوات أمريكية في قواعد عسكرية ثابتة .. وقوات حراسات أمنية (مرتزقة) .. وقوات حماية السفارة الأمريكية وقنصلياتها .. وعدد كبير من المستشارين بمختلف التخصصات. 2- ربط العراق بمعاهدة أمنية- إستراتيجية تسمح لقوات الاحتلال الأمريكية بالعودة لاحتلال العراق من قواعدها القريبة في (الكويت). ثالثاً- ثورة الشعب العراقي الوطنية قد اندلعت، نصفه يصرخ وبعضه يكظم غيظه والبعض الآخر صامت يراقب، ليس المهم المكان، وسط جنوب شمال، المهم هو الاتساع .. كلما صمدت سلمياً وتحت حماية مسلحة متأهبة قادرة على حسم المخاطر الآنية الظرفية، كلما كان لها تأثيرها في الاتساع. رابعاً- تعزف السلطات القمعية على وتر الطائفية عملياً وتنكرها إعلامياً .. الأمر الذي خلق إيقاعاً نشازاً وممجوجاً ومرفوضاً لطبيعته غير الواقعية ولتكراره في ظل أجواء الحرمان والجوع والمرض وانعدام العدالة والمساواة، وخاصة سياسة (التجهيل) المتعمدة .. والمعروف عن شعبنا في جنوب العراق الوطنية والعروبية، أما تسلط عناصر إيران الصفويين يبثون من على منابرهم سياسة التجهيل، ويعزفون على وتر الطائفية، في مناسبة وغير مناسبة، الهدف منه منع شعبنا في الجنوب من النهوض والمطالبة بحقوقه الوطنية التي حرم منها باسم المذهب وباسم الطائفة.. أما الوطن وحقوق المواطنين فلا أحد من عناصر سلطة الاحتلال المزدوج يكترث لها إطلاقاً. الحالة هذه في إطار الحشد واتساع الحراك الوطني العام تتطلب زيادة زخم التثقيف والتبشير وفرز العناصر العميلة وعزل العناصر الدخيلة على هذا الحراك، بعد تشخيصها وفضحها من اجل إسقاطها نهائياً . خامساً- الحالة في شمال العراق تأخذ طابعاً مختلفاً تماماً، فهي تشكل بيدقاً يحرك دوافع تمزيق العراق، وهي حالة لا يرتضيها شعبنا الكردي، الذي لا يرغب في الابتعاد عن محيطه العربي ويرفض أن تتحكم به وبمصيره (كوخات) حزبين هما طلباني وبرزاني، اللذان استحوذا على كل شيء في شمال العراق، نهبا ممتلكات الدولة ومؤسساتها العسكرية والمدنية في ظل أجواء الاحتلال الأمريكي الغاشم على العراق، وتعاونا مع أعداء الشعب العراقي من فرس صفويين وأمريكيين وإسرائيليين وغيرهم .. وهما لا يمثلان غير مصالح إقطاعيتين تتحكم فيهما عشيرتين .. أما شعبنا الكردي فهو يعيش البؤس والقمع، كما يعيش أيضاً على الفتات . فالتعامل معه في إطار التحرر الوطني يتم على أساس من ترسيخ الجسور مع القوى الوطنية الكردية وتعزيز أواصر التعاون معها من اجل حريتها المستلبة بصورة مركبة .. من الطغمة الإقطاعية (البرزانية والطلبانية) من جهة، ومن السلطة الطائفية الديكتاتورية العميلة في المركز من جهة ثانية.!! سادساً- تحالفات القوى الوطنية مسألة مهمة لا يجب إهمالها بأي حال، وأسلوب الانفتاح المحسوب يتوجب أن يحمل المرونة والقدرة والمطاولة والاتزان وتعزيز الثقة قولاً وفعلاً، ونكران الذات، وتكريس العمل النضالي المشترك.. والتحالفات هذه لا يجب أن تقوم إلا على أساس وطني جامع مانع يوحد ولا يفرق، يقوي ولا يضعف، يقوم على الثوابت الوطنية، التي لا يختلف عليها أحد من الوطنيين. كيف ننظر إلى العمل النضالي .. ومن أي زاوية؟ أولاً- العمل النضالي له صيغ مختلفة، وكما له صفحات له أوجهه المتنوعة .. فهنالك نضال مسلح وهنالك نضال سياسي، وكليهما في وحدة يصعب تفكيكها وفصل عناصرها، كما أنه من الصعب تغليب أحدهما على الأخر في خضم النضال. ثانياً- النضال التحرري له خطان : أحدهما يطلق عليه الجناح العسكري، والأخر الجناح السياسي.. وهما رافدان مهمان وأساسيان ترتكز عليهما كل حركات التحرر في العالم .. فإذا تقاعس احدهما أو تراجع، فهذا لا يعني ترجيح أحدهما على الآخر بأي حال، إنما التفتيش عن السبب، هل هو في المنهج أم في الوسيلة أم في القدرة، من أجل المعالجة التي تكفل إعادة التوازن بين الجناحين. ؟! ثالثاً- هنالك إعلام سياسي وطني لا يجوز الاستهانة به ، يدعم بكلمة وبمقالة ودراسة وبندوة وبمؤتمر، والتوجه الثوري العام ينير الطريق لواقع الفعل المناضل، يحذر ويرشد ويتصدى للإعلام السياسي المضاد، ويدعم حقائق ويدحض مزاعم ويفضح مسارات خاطئة، ويركز على القيم الوطنية والقومية والإسلامية والإنسانية.. إنها حرب من نوع آخر، وهي الأكثر خطورة، لأنها تقود مجاميع البشر وتكيف عقولهم وتخلق الرأي العام الضاغط، الذي له مكانته في الحراك الشعبي العارم .. فلا ينبغي بخس حق الإعلام الوطني، فالقلم والبندقية فوهة واحدة . رابعاً- وكما أن للبندقية لغتها الرائعة والمؤثرة في قلب الموازين على الأرض، فأن للقلم لغته الرائعة والمؤثرة في عقول البشر.. فهما لغتان رائعتان متكاملتان تعبران عن طبيعة المرحلة بنجاحاتها وإخفاقاتها، ومدها وجزرها، ومسارها إلى الأمام وتراجعها نحو الخلف .. حتى قيل أن الكلمة في بعض مواقعها أكثر خطراً وإيلاماً من الرصاصة .. فكلما بات الإعلام السياسي ممنهجاً ومبرمجاً في متابعاته لطبيعة التحولات، التي تجري على سطح الأحداث وغاطسها ومساراتها، كلما نجح وبلغ الأهداف، التي يجب أن تكون مرسومة .. الإعلام له أهداف ترسمها السياسة يتوجب وضعها موضع التطبيق تبعاً للتحولات التي يفرزها الواقع المتحرك دائماً سواء كان على مستوى الفعل أو الكلمة .. يشترط ذلك متابعات مضنية على كل الصعد لكي تستقيم الأمور بين القلم والبندقية . إذن .. الجبهة الوطنية ضرورة يقتضيها الواقع الراهن بكل تفصيلاته أنفة الذكر، وتشترط قيامها حتمية الصراع ، الذي بات صراعاً وجودياً يقتضي وحدة البندقية بين القوى الوطنية وفصائلها ووحدة القلم الوطني على قاعدة التحرير .. وإن أي تقاعس وعدم إدراك خطورة الموقف أو التعامي عن مجريات ما يحدث والتعليل بذرائع لا يقبلها الشعب، يعد أمراً يستوجب وضعه في دائرة الاهتمام والمعالجة السريعة، لأن التاريخ حين يقول كلمته لا يستحي من أحد، فيوصم من تلكأ وتقاعس وتذرع، بأبشع التوصيف الذي لن يزول من على صفحاته المديدة، ويوصف بالخير والنبل من أنكر ذاته وتقدم بكبرياء الوطن الذي يليق، وتحدى المستحيل في سبيل قيم الرجولة وقيم المبادئ وثوابت الوطن.!!