لمن أعمت الأوهام بصيرتهم، خاصة من كانت أوهامهم ورم نفسي خبيث، أن يفيئوا إلى رشدهم، ويعيدوا حساباتهم، لأن المقاومة الوطنية العراقية تستكمل خريطة الطريق التي رسمتها منذ التاسع من أيلول من العام 2003، أي بعد أربعة أشهر بالتمام والكمال بعد احتلال بغداد، حينذاك أعلنت منهجها السياسي الاستراتيجي. ولمن فاتته قراءة ذلك المنهاج، نعيد تذكيره لعلَّه يعي أن المقاومة لوطنية العراقية لا تعمل بالخفاء، ولا تبطن ما عليها أن تفعله، بل هي أعلنته نهاراً جهاراً. ولمن يشكك بأن المقاومة لا تستطيع أن تنفِّذ ما تقول، أي أن قولها حبر على ورق، سنقوم بقراءة تساعد الأميين ممن لا يجيدون القراءة، وتبرهن لكل مشكك بتلازم قول المقاومة مع فعلها، سنسند تحليلنا بنصوص مُستلَّة مما جاء في منهاج المقاومة الستراتيجي لنؤشر على ما قامت بتنفيذه، وعلى ما بقي منه قيد التنفيذ. الأحداث في العراق، بعد 25 كانون الأول 2012، ثورة شعبية بكل المقاييس : إذا كانت مفاهيمنا لشروط الثورة أنها تتلخص بثلاثة، وهي: وضوح الأهداف وجذريتها، قيادة جماعية مُنظَّمة، وحركة شعبية ناشطة، فإن الشعب العراقي اليوم يفجِّر ثورة بكل معنى الكلمة. ولذلك تتلخص شعاراتها بلاءات، تقابلها بدائل ثورية : أولاً: لا للاحتلال بكل وجوهه، نعم للتحرير الكامل والناجز. ثانياً: لا للطائفية والمذهبية والعرقية والإقليمية، نعم لوحدة الشعب الوطنية ووحدة الوطن الجغرافية. هذه هي ثوابت المقاومة الوطنية العراقية، مُعلَنَة منذ أن انتمت لفكر البعث العربي الاشتراكي، وأكَّدتها في منهاجها الاستراتيجي في 9 أيلول من العام 2003، حيث أعلنت إيمانها »باستمرارية المقاومة طالما كان هناك احتلال وبأي صيغة وعلى أي جزء من أرض العراق«. وهي لم تتغيَّر ولم تتبدَّل لأنها أهداف الشعب العراقي، وهي مستمرة بعد إلحاق الهزيمة بالاحتلال الأصيل، وأكدتها بعد إعلانها البدء بالصفحة الحالية، أي الثورة الشعبية لاستكمال مهمتها بالتحرير الكامل. وقد استشرف المنهج الاستراتيجي هذه المرحلة، عندما لم يقف بالمقاومة عند حدود هزيمة الاحتلال الأصيل، بل أعلن: »شرعية وواجب التعامل القتالي أيضاً مع المتعاملين والعملاء أفراداً وأحزاباً وهيئات وغيرها من العناوين والمسميات«. ومن أجل ذلك، أي طرد الاحتلال بالمقاومة المسلحة، والتعامل القتالي مع ذيوله، أعلن المنهاج الاستراتيجي عن بدء »العمل على تحقيق تشكيل جيش تحرير العراق كتطوير في عمل المقاومة لتحرير العراق«. وإذا كانت المقاومة قد أنجزت الصفحة الأولى بدحر الاحتلال الأميركي، فيبقى أمامها الصفحة التالية، وهي دحر المتعاملين والعملاء، وبالأخص منهم الخونة الذين يقودون (العملية السياسية)، ومن الاحتلال الإيراني المقنَّع تحت عباءات الأحزاب الطائفية، هذا الاحتلال الذي يحمي تلك العملية، ويشارك أولئك العملاء بالتلاعب بمصير العراق. واستناداً إلى مفهومها لتلك الأهداف جاءت المقاومة العراقية لتكشف اللثام عن افتراءات شلة من عملاء الاحتلال، وشلة ممن ركبوا موجة التظاهرات والاعتصامات الشعبية من الذين كانوا يعملون على تحريف أهداف الثورة، أي ممن يصح عليهم القول: يفجِّر الثورة ثائر ويستفيد منها انتهازي، ولهذا نرى من الضروري أن نحدد الموقف من تلك الافتراءات، وهي: أولاً: افتراءات حكومة المالكي المزدوجة العمالة، وذلك باتهام الثائرين بالطائفية والمذهبية، وتنفيذ أجندات خارجية. ليس هناك من يجهل أو يتجاهل مقررات المؤتمرات التي عقدتها من زعموا أنهم يمثلون المعارضة العراقية الشيعية في لندن وطهران وغيرها من عواصم الدول الأجنبية، ومن الواضح أن أكثر المشاركين فعالية فيها كان حزب الدعوة الذي يترأس المالكي تياراً منه. فهي ارتكبت جريمتين: -الأولى أنها تعاونت مع الخارج، أميركياً كان أم إيرانياً، على حساب أمن العراق الوطني. -والثانية، أنها بدلاً من تصحيح ما زعمت أنه كان يشكل خللاً في بنية السلطة في حرمان الشيعة من المشاركة فيها، كان عليها أن تعمل من أجل تطبيق مبدأ المشاركة السياسية على قاعدة المواطنة. وبالعكس من ذلك فقد دعت إلى إقامة نظام طائفي سياسي يقوم على مبدأ المحاصصات الطائفية. واستطراداً، وإذا كان أحد من الشيعة محروم من السلطة فلن يتحمل النظام الوطني للبعث وزر حرمانه منها، بل هو الفقه الجعفري الذي يتحمل الوزر، فلأن الفقه يحرِّم على الشيعي المشاركة بأية سلطة، لأنه كما يزعم أنه لا يجوز لشيعي أن يشارك بأي سلطة غير سلطة الإمام المهدي المنتظر. أما من أراد أن يشارك من الشيعة، فكانوا كثراً، وفاقت أعدادهم الخمسين بالمئة في شتى المواقع السياسية والحزبية والإدارية والعسكرية. فتأتي اتهامات المالكي للقوى الشعبية الثائرة بأنها طائفية ومدفوعة من الخارج، ليصحَّ عليه القول: (عاهر طائفي يحاضر بالعفة عن ممارسة الطائفية، وخائن مرتبط بالخارج يحاضر بالطهارة الوطنية). -ثانياً: الدعوة إلى تأسيس إقليم (سني) في المحافظات العراقية الستة الثائرة. وأعلن الدعوة إليها بعض ممن ركبوا موجة الثورة، لتمرير أجندة قصيرة النفس تحمل كل شبهات تطبيق المشروعين الخبيثين، مشروع الشرق الأوسط الجديد الأميركي، ومشروع ولاية الفقيه الإيراني. كانت المقاومة العراقية، ومن بعدها طلائع الثورة الشعبية العراقية، قد أعلنت أنها تعمل لتحرير العراق واستعادة وحدته شعباً وأرضاً، إذ جاء في المنهج السياسي الاستراتيجي »لقد حددت المقاومة العراقية الباسلة التي يقودها ويديرها حزب البعث العربي الاشتراكي أهدافها كحركة تحرير وطنية بطرد قوات الاحتلال وتحرير العراق والحفاظ عليه موحداً ووطناً لكل العراقيين«. و»تأزيم الإقليم ومفرداته ومنع تحقيق مصالحه... على حساب العراق ووحدته الوطنية«. المحافظات الست ليست إقليماً للانفصال بل قاعدة لإعادة توحيد العراق لقد أعلنت المقاومة العراقية، بوضوح ودون أي لبس، أمام المجتمع الدولي والعربي والعراقي: هذه هي أهدافنا في تحرير العراق، تحرير من كل أنواع الاحتلال وإفرازاتها، وإعادة توحيده، واستعادة عروبته، وبناء نظام مدني يستأنف مشروعه النهضوي الوطني والقومي. فمن أراد أن يسهم أو يساعد أو يشارك على أساسها فله الشكر، ومن لم يشأ فنحن لن نخضع لأجندة أحد أو شروطه. فمن يساعدنا وإذا لم يعتبر مساعدته واجباً، فسنقدم له الشكر، ومن لم يشأ فليكفنا مؤونة قتاله وليكفنا شره. وعلى الرغم من ذلك، ولذلك، اعتبرت المقاومة أنها لن تراهن كثيراً على دعم الآخرين، لا بل حسبت أن الآخرين قد يعملون ضدها لمنعها من تحقيق أهدافها، وهذا ما كان ساطعاً في وضوحه، كما جاء في المنهج السياسي الاستراتيجي: »بانعدام احتمالات الدعم من قبل الأنظمة العربية كلها ولأسباب مرتبطة بطبيعة النظام الرسمي العربي بمجمله، وبطبيعة وأدوار أنظمة عربية بعينها... الطامحة للعب أو تجديد أدوار ترسمها لها الولايات المتحدة.«. ولكل هذا، تكون الدعوة لبناء (إقليم سني)، في مواجهة (إقليم شيعي)، و(إقليم كردي)، دعوة مشبوهة من وجهة وطنية وقومية. وإذا كان الزخم الأكبر لهدف التحرير قد انطلق من المحافظات الستة التي يدعو البعض لإعلانها (إقليماً سنياً)، فلأن الانطلاقة من تلك المحافظات ليست إلاَّ مسألة مرحلية اقتضتها نضوج الظروف الثورية فيها. وهي ليست نقطة النهاية لتتحول إلى إقليم، بل هي نقطة البداية لإعادة وحدة العراق الخالي من الأقاليم، على أن يتحقق هذا الهدف بعد إسقاط العملية السياسية وتأزيم وضع الإقليم الإيراني وحرق أصابعه، وجعله يدفع الثمن كنتيجة لتكليف نفسه العمل بالضد من إرادة الشعب العراقي. لذلك تعتبر المقاومة العراقية، والثورة الشعبية بالتعاون مع العشائر العراقية التي آمنت بوطنية أهداف الثورة، أن موقعها المميز في المحافظات الستة هي اعتبارها القاعدة للحركة والانطلاق، فهي الممر للعبور إلى بغداد، ومن بغداد إلى المحافظات الأخرى، وليست هي إذن قاعدة ستغلق أبوابها للحؤول دون هدف تحرير العراق بدءاً من المحافظات الستة وصولاً إلى المحافظات الثمانية عشرة، أي من الموصل وصولاً إلى البصرة. ليست الثورة إصلاحاً بل تطهيراً كاملاً لكل مخلفات الاحتلال ثورية الأهداف تتلخص ليس بإصلاح ما هو قائم، لأن ما هو قائم مشابه للاحتلال ومن إفرازاته، ولأن الاحتلال غير شرعي فإن إفرازاته غير شرعية أيضاً. فالإصلاح تحت راية حكومة المالكي كإفرازات للاحتلال الأصيل، وتحت ضغط الاحتلال الإيراني البديل لا علاقة لها بالديموقراطية حيث إن ديموقراطية الاحتلال الأصيل وكذلك البديل نُسِجت، وستُنسَج في مصانعهما، وعلى مقاسات مصالحهما. إن من أهم هداف الثورة العراقية هو تحرير الوطن واستعادة وحدته وضمان سيادة الشعب العراقي على أرضه الوطنية وبناء النظام السياسي الذي يضمن استمرارية الوحدة والسيادة على كل أرض العراق. وهذا الهدف لن يكون متاحاً طالما زال وجه من وجوه الاحتلال، بينما ظلَّت الوجوه الأخرى حيَّة لأنها تنوب عنه وتحكم باسمه وبمشيئته، وتعمل من أجل مصلحته. ولن تكتمل الثورة إذن إلاَّ بإسقاط الاحتلال كلياً وليس إسقاط جزء منه فهو كالمرض الخبيث يأكل الخلية الحية منه. وطالما ظلَّت إحدى خلاياه الخبيثة، فإنها ستأكل كل الخلايا السليمة الأخرى، ولن ينفع مع بقايا جراثيم الاحتلال إلاَّ الاستئصال الكلي والكامل. كما أنه ليس أن تعمل على تجميل وجه عملائه تحت حجة وصولهم إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع. وصناديق الاقتراع تحت ظل الاحتلال ليست شرعية على الإطلاق. الشعب العراقي يريد ثورة تجتثُّ أوهام المحتلين وعملائهم: ما ناب عن الاحتلال الأصيل فهو احتلال يوازيه بالخطر. وإذا كان النظام الإيراني مشاركاً، أو داعماً، أو متواطئاً، أو متآمراً، أو حتى صامتاً عن الاحتلال الأميركي، تكفي حمايته لـ(العملية السياسية)، وتقديمه كل أنواع الدعم للعملاء لكي تلتصق به جريمة احتلال العراق. ويكفيه مأزقاً أنه يحمي الخونة ممن باعوا أوطانهم لتنكشف أضاليله وخداعه أمام من أحسن الموقف منه. وما ينطبق على الاحتلال الأميركي من أوصاف ومسؤوليات، تنطبق على النظام الإيراني، لأن من يرث الباطل ويدافع عنه يتحمل مسؤولية جرائمه وتجب مساءلته عنها. وهذا ما أكدت عليه خارطة طريق المقاومة العراقية منذ إعلان منهاجها السياسي. وهنا، وإذا كانت المقاومة قد وضعت شرطاً وحيداً للتفاوض مع الاحتلال الأميركي، هو شرط التفاوض من أجل الانسحاب، ورسم خطوطه، فذلك يصح أيضاً كشرط للتفاوض مع الاحتلال الإيراني. وإذا كان مبدأ حسن النية ساري المفعول، فعلى النظام الإيراني أن يلتقط الفرصة المناسبة في الوقت المناسب، أو الفرصة الأخيرة في آخر الشوط الذي تخوضه المقاومة العراقية؛ ولأنه إذا فعلها، ونحن لا نتوهَّم، فإنه يوفر على الشعبين العراقي والإيراني الكثير من الخسائر. والأمر كذلك، فالمشهد العراقي في هذه اللحظة، يتميِّز بتحقيق المرحلة الأولى من تحرير العراق من الاحتلال، بإلحاق الهزيمة بالاحتلال الأصيل. وما بقي منه في قواعد معزولة يعاني من موت سريري، تراهن فيه إدارة أوباما على أعجوبة لتعيد الحياة لاحتلالها. هذه الأعجوبة تستند إلى أوهام أن ما لم تحققه بالاحتلال المباشر تعمل على إحيائه بالاحتلال الإيراني البديل، وبتركيب أرجل لحكومة المالكي. وكانت آخر محاولاتها أنها مدَّت جسور الإنقاذ لتلك الحكومة عندما مارست ضغوطها على الأكراد من أجل إنهاء مقاطعة المالكي. وإذا كانت سياسة تقبيل اللحى تنفع لجولة بين المالكي والأكراد، فإنها لن تستطيع أن تعيد مئات الرُقع إلى ثوب مهلهل تزداد فيه الفتوق في كل يوم أكثر من اليوم الذي يسبقه. وبمراجعة سريعة لما سبق من نضالها وما هو مرسوم لها، نجد أن أهداف الثورة العراقية في هذه المرحلة تنطلق من هدفين نصَّ عليهما المنهج السياسي الاستراتيجي، وهما: 1-»شرعية وواجب التعامل القتالي مع المتعاملين والعملاء أفراداً وأحزاباً وهيئات وغيرها من العناوين والمسميات«. 2-»تأزيم الإقليم ومفرداته ومنع تحقيق مصالح الآخرين المجاورين على حساب العراق ووحدته الوطنية، وتعظيم تكلفة مساندتهم للعدوان وتعاملهم مع إفرازاته الداخلية في العراق المستهدفة تفتيت الوحدة الوطنية العراقية على حساب مصالح عرقية ومذهبية وجهوية وفئوية مرتهنة للاحتلال ومرتبطة بوجوده«. أصبح من الواضح أن الثورة العراقية المندلعة اليوم بدأت في مرحلة نوعية لإسقاط فلول الاحتلال، متَّخذة طريقة القضم والهضم، طريقة الهجوم الذي لن يدع تحالف حكومة المالكي المدعوم إيرانياً يلتقط أنفاسه، وهذا التحالف إذ لجأ إلى أسلوب عسكرة المواجهة في الحويجة ومن قبلها الفلوجة والرمادي، فإنه دخل في النفق الذي لن يخرج منه سالماً. وأما السبب فلأن الثورة السلمية ليست من دون أنياب عسكرية، فقد وُضعت بندقية المقاومة في خدمة حماية الشعب الثائر. وهي لن تنجرِّ إلى ردات فعل غير محسوبة كما يُراد لها، وإنما تستند حمايتها إلى عمليات تجميلية تُستخدم ضد كل من اندسَّ في المؤسسات الحكومية العسكرية والأمنية، ومعظم هؤلاء من الميليشيات المحقونة طائفياً والمدعومة من المؤسسات الإيرانية الأمنية، والتي تُصرُّ على إلحاق الأذى بالشعب العراقي الثائر.