بعد أكثر من عامين على انطلاق الانتفاضة الشعبية في سورية، وبعد حوالي عشرين شهرا على تحولها إلى ثورة مسلحة استغلها النظام ليمعن في العباد قتلا واعتقالا وتهجيرا ومجازر، وفي البلاد تدميرا لم يذكر التاريخ له مثيلا، حيث وصلت سورية إلى حافة الانهيار سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وعسكريا. بعد كل الذي حدث ، لا بد من وقفة صادقة مع النفس، وقفة تأمل في مسار الثورة والآفاق التي هي ذاهبة إليها، وقراءة الظروف المحلية والإقليمية والدولية المحيطة بها ومعرفة القوى التي تتصارع في سورية وحول سورية ومن أجل سورية، واستخلاص نتائج واقعية لمسيرة الثورة منذ انطلاقتها وحتى الآن، مع ضرورة النظر لواقع المعارضة التي تحاول قيادة العمل السياسي وانتزاع شرعية التمثيل للثورة وللشعب. من الواضح أن هناك فرزا لا لبس فيه بين قوى تقف بصلابة إلى جانب النظام السوري ممثلة أصلا بروسيا وإيران وحزب الله، تدعمه عسكريا وماليا وبالجنود والضباط والخبراء والمخططين وتعلنها صراحة أنها لن تسمح بسقوط النظام، وذلك لاعتبارات سياسية واستراتيجية تخص كل طرف، كما يتلقى النظام دعما سياسيا ودبلوماسيا من الصين ودول البريكس، ودعما من قبل بعض القوى السياسية العربية المحسوب جزء كبير منها على التيارات القومية والاشتراكية واليسارية. بالمقابل، فإن المواقف الداعمة لقوى الحراك الثوري والجيش الحر، تمثل من البداية بالحاضنة الشعبية من أطراف المدن والريف ومن خزين الغضب الذي تفجر في صدور الناس ضد الظلم وإهدار الكرامة وضد الفقر والتهميش ثم من كمية القتل والدمار التي ارتكبها النظام ضد الأطفال والشباب خلال مظاهراتهم السلمية. حاجة الثوار للسلاح أدخلت الكثير من اللاعبين إلى ساحة الصراع بحجة الدعم المادي والتسليح، دخلت كل من قطر والسعودية وتركيا والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، إضافة إلى لاعب أساسي بقي في الصفوف الخلفية وهو إسرائيل. دخول تلك القوى لم يكن لهدف نبيل يرمي إلى تخليص الشعب السوري من نظام قاتل لا يرحم وتمكينه من بناء دولته الديمقراطية المدنية، بل كانت لأغراض أخرى. إن من كان وما يزال يضبط إيقاع تلك المساعدات حجما ونوعية هي الولايات المتحدة الأمريكية ومن ورائها إسرائيل، أما بقية القوى والدول فلم يكن لها من التأثير إلا تنفيذ الأوامر والتوجيهات وتسويق المبررات لعدم اتخاذ موقف حاسم يردع النظام ويحمي المدنيين ويوقف القتل والدمار. المشكلة الأولى الكبرى التي تواجه الثورة السورية هي أنها لم تجد من تطلب الدعم منه سوى القوى الاستعمارية التي تعتبر العدو التاريخي للشعوب وخاصة الشعوب الإسلامية والعربية، فهي القوى التي استعمرت الدول العربية منذ الحرب العالمية الأولى، وهي القوى التي خلقت دويلة إسرائيل في قلب الوطن العربي وأمنت لها تفوقا عسكريا واقتصاديا على كل الدول العربية مجتمعة، وقفت معها في كل حروبها ضد الدول العربية، ساندتها في سياساتها الاستيطانية التي قضمت ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية وما زالت تحميها من أي محاسبة أو مساءلة عن جرائمها العنصرية. هي القوى التي احتلت ودمرت العراق الذي كان أمل الأمة العربية ببناء قوة عسكرية واقتصادية وعلمية لم تتوفر لأي بلد عربي آخر، العراق الذي حمى البوابة الشرقية للوطن العربي من الغزو الإيراني العسكري والطائفي. أمريكا وحلفاؤها وإسرائيل دمروا العراق وأدخلوه في حرب طائفية قذرة وسلموه لقمة سائغة لإيران. هذه هي القوى بدت وكأنها تريد مساعدة الثورة للتخلص من نظامها المستبد، فهل كان من الممكن الثقة بها من الأساس؟ ما رأيناه منذ عامين وما زال ماثلا أمامنا حتى الآن يؤكد أن تلك الدول لم تكن يوما مخلصة بوقوفها إلى جانب الشعب السوري المنتفض، ولا يمكن الثقة بها، لأن هناك مصلحة إسرائيلية بتدمير سورية جيشا وشعبا وبناء ومجتمعا وسلما أهليا ناهيك عن الاقتصاد والبنية التحتية ، ولهم في استمرار الحرب والقتل والدمار والتهجير أفضل وسيلة لتحقيق تلك الأهداف، وإسرائيل تدفع بأمريكا والغرب عامة لعدم التدخل لحسم الصراع وإسقاط النظام. مشكلة الثورة الثانية تمثلت بدخول ما يسمى بالقوى الإسلامية الجهادية ميدان المعركة.كان لانتفاضة الشعب السوري وجها حضاريا سلميا استمر لأشهر عديدة واجه بها رصاص النظام بصدور عارية لكنه كان يكتسب كل يوم أصدقاء جدد ومساندة شعبية محليا وعربيا ودوليا مما أوقع النظام في مأزق أخلاقي غير مسبوق، وكان للنظام مصلحة كبرى في عسكرة الانتفاضة ودفع الناس لحمل السلاح ليبرر لنفسه استخدام السلاح الذي يتفوق فيه بشكل لا يقارن، وهذا ما حصل، ومع العسكرة دخلت تلك القوى الجهادية على الخط وأثارت الكثير من الجدل حول طبيعتها ومن يقف خلفها يمولها ويمدها بالسلاح وبالمؤن؟ لقد نالت تلك القوى مصداقية كبيرة لكونها كانت تدخل معارك حاسمة في بعض المواقع وتنتصر على قوى النظام ثم تساعد السكان وتقدم لهم المعونات، وهم مقاتلون أشداء، لكن ومع استمرار الصراع تناسلت تلك القوى الجهادية بشكل كبير وتناسلت معها القيادات وأمراء الحرب ومراكز القرار وتشكيل إمارات مجهرية في أكثر من منطقة وكثرت المخالفات وعمليات الخطف والسرقة والنهب، وزاد الطين بلة مبايعة جبهة النصرة لأمير القاعدة الظواهري واعتبارها جزءا من هذا التنظيم الذي تعتبره دول العالم بأنه إرهابي. ومشكلة المشاكل التي تواجهها الثورة هي المعارضة السياسية السورية. كلنا يعرف بأن المعارضة السورية قبل الانتفاضة لم تكن تشكل أي ثقل في ميزان المواجهة مع النظام، فمعارضة الداخل قسم منها في السجون والآخر تم تدجينه أو محاصرته وتهميشه. أما معارضة الخارج فقد شاخ أغلب رجالها في بلدان الغربة ولم يكن لها وجود فاعل أو مؤثر وكانت تعيش شبه انقطاع مع الداخل. مع انطلاقة الانتفاضة الشعبية التي أطلقها شبان بدون خلفية أو تجربة سياسيتين، تهيأ للكثير من رجال المعارضة أن فرصتهم قد سنحت، فأمامهم تجارب قريبة في العراق وليبيا وأن القوى الغربية ستؤمن لهم طريقا سهلا للوصول إلى السلطة. تراكض الناس لتشكيل أحزاب وتيارات وكتل سياسية لتأمين دور ما في سورية ما بعد سقوط النظام ، وسارعت القوى الأكثر تنظيما وإمكانيات مادية، وبدعم من القوى الغربية التي أرادت استنساخ تجربة المجلس الوطني المؤقت في ليبيا، لتشكيل المجلس الوطني السوري ثم من بعدة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة. لقد أثبتت التجربة الماثلة أمامنا أن المعارضة السياسية السورية غير ناضجة بما يكفي لترى أن عليها التخلي عن الكثير من الطموحات الفردية للأشخاص وللأحزاب أمام مصلحة الثورة ومصلحة سورية أولا وأخيرا، فلا تجربة المجلس الوطني والصراعات التي رافقت تشكيله وتوسعته والأخطاء التي مارسها مع غيره من القوى السياسية ثم فقدانه للمصداقية بنظر شباب الثورة، ولا تجربة الائتلاف الحالية، التي لا تختلف كثيرا عن تجربة المجلس الوطني، يمكن أن تؤدي إلى نتائج حاسمة في قيادة الثورة إلى النصر، فكلاهما ارتهن لإرادات خارجية ولدول، من خلال الدعم المالي أو التسليحي أو الاثنين معا، حيث كان غياب الاستقلالية في اتخاذ القرار، والخلافات الشخصية والحزبية والفئوية وراء هذا المظهر البائس للمعارضة السورية. أما الجيش الحر فتلك مسألة تثير الكثير من الكلام، حيث لا يعرف له قيادة مركزية تخطط على مستوى القطر، فعلى ما يبدو هناك قيادات ميدانية ومجالس عسكرية في كل منطقة كل منها يقود معركته في منطقته، وبما أني لست خبيرا عسكريا فلا أريد أن أعلق كثيرا على هذا الموضوع رغم أن معلوماتي العامة تجعلني أرى أن أي ثورة حتى تنتصر لا بد لها من جيش موحد وقيادة موحدة وتخطيط مركزي يرى المعركة بشكل عام وينقل القوى من مكان لآخر حسب الحاجة على أساس استراتيجية وتكتيك وانضباط، الشيء الذي تفتقده فصائل الجيش الحر التي يتحرك كل فصيل منها بمعزل عن الفصيل الآخر ويدخلون معارك تكون نتائجها كارثية على المدنيين وعلى البنية التحتية خاصة حين يحتلون بلدة أو حيا فيأتي النظام ليدمره بالكامل على رؤوس من فيه. أمام هذا الواقع فإن الحرب الدائرة الآن يمكن أن تستمر لفترة طويلة في ظل الحسم العسكري الممنوع، فلا حلفاء النظام يسمحون بسقوطه، ولا من يدعون أنهم أصدقاء الشعب السوري يقدمون له الدعم الكافي لتغيير موازين القوى على الأرض، إضافة إلى عدم وجود أي رغبة للتدخل الإنساني لحماية المدنيين. استمرار الحرب يعني استمرار نهر الدماء واستمرار التدمير وتفكيك بنية المجتمع السوري وتحويل سورية إلى دولة فاشلة، دولة طوائف وحارات وأزقة، بلا راس ولا جسد. في ظل غياب الحسم العسكري لا بد من امتلاك رؤية للحل تتفق عليها كل الأطراف السياسية والعسكرية تنهي القتل والدمار وتحقق للشعب السوري طموحه في الحرية والكرامة من خلال التخلص من نظام الاستبداد والطغيان ومحاسبة المجرمين القتلة، وصولا إلى بناء دولة الحق والقانون والعدل لكل أبناء سورية. على قوى المعارضة أن تتخلى عن أنانيتها وتقوقعها حول ذاتها وتبتعد عن سياسة العزل والإقصاء أو المحاصصة وأن تقبل بالرأي الآخر وبوجود الآخر فالكل في سلة واحدة بنظر النظام ولا فرق بين معارض وآخر فكلهم أعداء بالنسبة له، وليخجل المعارضون أمام تضحيات الشعب ومآسيه وآلامه وكفى تشتتا وتفرقا فليس بمثل تلك الصورة تنجح الثورة وتنتصر. كما لا بد من وجود التيار الديمقراطي المدني الواسع ليعمل على إعادة الثورة إلى منابعها الأولى كثورة سلمية من أجل الحرية والكرامة وبناء مجتمع جديد تسوده العدالة والقيم الإنسانية الرفيعة، قيم التسامح والمواطنة والتكافل والتضامن واحترام الآخر.