عند الحديث وأ لبحث عن آثار العولمة على الحقوق الثقافية، فسوف نجد الأمر أكثر تعقيداً وأكثر إثارة للجدل بين الخصوصية والعالمية، وبين ما هو محلي وما هو كوكبي، وبين التعددية والتوحيد في نظرة شاملة كما هو كوني، فالقيم المترسخة في ضمير الشعوب، هي التي تشكل رؤيتها ونظرتها للعالم ومن ثم تأتي أهمية الثقافة بالنسبة لقضية العولمة. نحن في الدول النامية مبهورون بالتقدم التكنولوجي الهائل الذي حققه الغرب في مجال الاتصالات والإنترنت وفي العلوم الطبية، وخاصة في البيولوجيا مع اكتشاف الجينوم البشري أي الخريطة الوراثية للإنسان، مما سيقلب كثيرا من المفاهيم ويزلزل كثيرا من المعتقدات. ولقد عايشنا خلال الخمسين سنة الأخيرة اختراعات مذهلة غيرت وجه العالم خاصة اختراع الطائرات وأشعة الليزر والكمبيوتر. كذلك عاصرنا خلال العشرين سنة الأخيرة أحداثا تاريخية هزت كيان المجتمع الدولي مثل انهيار سور برلين، وتفكك الاتحاد السوفييتي الذي كان قطبا سياسيا وأيديولوجيا يتقاسم الهيمنة على العالم مع الولايات المتحدة الأمريكية. وبهذا الانهيار برزت الولايات المتحدة الأمريكية وحدها وكأنها شرطي العالم الذي يريد أن يفرض نظامه وثقافته على جميع الدول، وبدأت السياسة الجديدة للولايات المتحدة تهدف إلى «أمركة» العالم وذلك تحقيقا للحكم الأمريكي الذي بدأ مع الرئيس الأمريكي روزفلت (1858-1919) حين قال قولته المأثورة: « إن أمركة العالم هي مصير وقدَر أمتنا (أي الأمة الأمريكية) » وهذا التفكير المتعصب هو ما كان ينادي به المستر أفرز جنجريتش، الزعيم السابق للأغلبية الجمهورية المتحكمة في الكونغرس الأمريكية، والذي أعلن أمام الكونغرس في عام 1995: « إن العنصر الأمريكي هو الأسمى و الأرقى ومن ثم الأحق بالهيمنة على العالم ». أليست هذه السياسة الأمريكية نوعا جديدا من «التميز العنصري»؟ أعضاء البرلمان الأمريكي (الكونغرس)، أي ممثلو الشعب الأمريكي يعتقدون أنهم أرقى شعب في العالم وأن ثقافتهم الأمريكية أحق بالهيمنة على العالم، وليس على العالم إلا أن يقبل النظام العالمي الجديد الذي يريدون أن يفرضوه عليه تحت مصطلح العولمة؟! أين إذن الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، واحترام المعتقدات الدينية والفلسفية والأيديولوجية والخصوصيات الثقافية للشعوب المختلفة؟ ووفقاً للمواثيق الدولية، فللإنسان الحق في التمتع بثقافته الخاصة واستخدام لغته والمجاهرة بدينه، أي أن تكون له خصوصيته الثقافية التي تعني التباين بسبب اختلاف السلالة أو اللغة أو الدين في إطار الثقافة والفكر على مستوى الوطن والمنطقة والحضارة، إلا أَن التفاوت الهائل في الإمكانيات الثقافية التي ارتبطت ببعض الحضارات، يثير الكثير من المخاوف لما في ذلك من تهديد للخصوصية ولثقافات أخرى لا تملك هذه الإمكانيات. "فالولايات المتحدة الأمريكية تتفوق في نسبة ما تصدره من مادة ثقافية وترفيهية (كتب وأفلام سينما) وموسيقى، وبرامج تلفزيونية إلى حد أن صادراتها من هذه المواد تسبق جميع صادراتها من أي قطاع آخر، فقد حقق فيلم واحد (تيتانك) 1،8 بليون دولار. وهذا ما يدفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى الإصرار على أن تعامل السلع الثقافية، معاملة بقية السلع الأخرى بمعنى ألا تفرض عليها قيود تمييزيه. أما في العالم الثالث فمشكلة العولمة الثقافية أنها تكاد تكون في اتجاه واحد نتيجة لضعف التقنيات وقلة الإمكانيات الغنية والعلمية، ولذلك بدأت ثقافة العولمة عبر آلياتها بتحطيم الدفاعات والحواجز وتهديد الاستقرار في العميق من النسيج الاجتماعي والثقافي العربي "واستيطانه والتنزل منزلة البث المتأصل فيه، المزاحم فعلاً ونفوذاً وأَثراً للأصيل الموروث. ففي عصر العولمة الزاحفة من خلال ثورة الاتصالات الفضائية، لم يعد سلطان الآباء التربوي، أو سلطان المعلمين والأساتذة التعليمي، أو سلطان الإعلام الرسمي، أو سلطان الفقيه أو الخوري، أو جاذبية الكتاب والمجلة يضارع في الأثر والنفاذ سلطان الصورة الزاحفة عبر الفضاء، الحاملة لمضامين قيميه تجافي في الأغلب الأعم منها ما استقرت عليه أنساق القيم. "فقد ذكرت إحصائيات منظمة اليونسكو، أن شبكات التلفزيون العربية، تستورد ما بين ثلث إجمالي البث (كما في سوريا ومصر) ونصف هذا الإجمالي (كما في تونس والجزائر)، أما في لبنان فإن البرامج الأجنبية تزيد على ذلك، حيث تصل النسبة إلى 58% من إجمالي البث ما بعد المكتوب أي ثقافة الصورة، فالصورة تمارس السحر عينه الذي كانت تمارسه الكلمة قبل عقدين من الزمن وعلى مدار آلاف السنين، وهي تمارسه أضعافاً مضاعفة في التأثير، لأنها أشد إغراءً وجاذبية من الكلمة. ولاشك أن هذه الأوضاع تثير مخاوف الكثيرين في منطقتنا، باعتبارها تهدد الهوية الثقافية التي هي حق من حقوق الإنسان، كما تهدد في الصميم العادات والتقاليد الموروثة لمجتمعاتنا العربية التي يُسعى من أجل المحافظة عليها وتوريثها للأجيال القادمة، يزيد من هذه المخاوف خروج عدة نظريات متعجلة في أعقاب سقوط حائط برلين، تبشر بانتصار الليبرالية الجديدة والحضارة الغربية، ووجوب تعميمها لتشمل العالم أجمع، مثل مقولة "نهاية التاريخ" التي خرج علينا بها فرانسيس فوكوياما، ومقولة "صدام الحضارات" التي خرج علينا بها صاموئيل هنتجتون. وعلى الرغم من أن هذه المقولات لم تستند إلى تحليل موضوعي لما سيكون عليه شكل النزاعات في القرن الحادي والعشرين، إلا أنها أثارت الكثير من المخاوف، لأنها صدرت عن جهات معتمدة داخل الولايات المتحدة الأمريكية، فجاءت وكأنها تنظير لسياسة الهيمنة الأمريكية بخاصة، وأنها تميزت بالعداء الشديد للإسلام. فالترويج للثقافة العالمية على أساس أنها مشتركٌ عامٌ بين البشر هو وحدة الإنسانية، يهدد المجتمعات ويسعى إلى طمس حضارتها والقضاء على خصوصيتها، ومن أهم الوسائل التي تستخدمها عادة العولمة في تحقيق أهدافهم، ثقافة الصورة التي تعد المفتاح السحري لإثارة وعي الإنسان بما يدور حوله من عالمية لإمكانية تسويتها على مستوى عال وبنطاق واسع، فتعطي تأثيرها في النفاذ إلى إدراك المتلقي دون أن تكون محتاجة إلى مرافقة مؤثرات لغوية، وذلك باستغلال الإعلانات والتسلية المزيفة والتضليل الإعلامي الذي يهدف إلى تدمير القيم الأخلاقية. من جهة أخرى، فإن الحديث عن تشكيل وتحصين الهوية الثقافية الداخلية في مقابل الاختراق الثقافي الغربي، يحيل بالضرورة على سيرورة بالغة التعقيد، ترتبط بمختلف المؤسسات الاجتماعية التي توكل إليها مهمة إنتاج القيم والرموز وضمان استمرارها، والتي تأتي المؤسسات الإدماجية التقليدية من قبيل المدرسة والأسرة على رأس قائمتها، الشيء الذي يحيل بقوة الأشياء على التطرق لموضوعية التربية كفاعلية دينامية من شأنها توفير مجال حد ملائم للمقاومة أو الممانعة بتعبير عبد الإله بلقزيز()،. فإلى أي حد يمكن اعتبار ذلك ضد آليات العولمة والتنميط الثقافي؟الإشكالية الثقافية الدائرة حول النقاء الثقافي هي أمر ذهني مبالغ فيه، والدعوة إلى ثقافة معزولة عن الآخرين في عصر الاتصال والمعرفة يعني ثبات متغيرات التاريخ والمجتمع، ويتوجب فهم المعادلة الثقافية واستيعاب مكوناتها المهمة كالنصوص النظرية والفاعلية الاجتماعية وحركة التاريخ. ونرى أن لظهور العولمة في القرن الأخير والمتمثلة وكما أشرنا بالتطور المهول لوسائل الاتصال، والتحكم عن بعد، والتطور المدهش لوسائل النقل والمعلوماتية وغيرها من الأمور التي حملتها العولمة، الدور الكبير في تعميق الحالة الموجودة وتسهيل وسائل الوصول إلى الأهداف المبتغاة، واختزال عامل الوقت، وتقليل الخسائر، واستخدام الحروب الإعلامية بغية التأثير على الخصوم ليصبحوا قرية سهلة، وخصوصاً أن من يمتلك تقنية هذه الظاهرة هي الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول الغرب. إن المجتمع الدولي في حاجة إلى المسلمين وإلى معرفة خصوصياتهم الثقافية لإثراء التراث العالمي للإنسانية وللتفاعل مع الثقافات والحضارات الأخرى في إطار حوار هادف ومستمر ومتميز.