أن معطيات ونتائج السنوات العشر الماضية من الغزو الأمريكي للعراق، صارت واضحة وجلية لا نحتاج لسردها هنا. لكنها تبقى تتطلب سبر غورها للكشف عن خفايا وحقائق ما تزال مجهولة لنا وللكثير. إذ أن عدم إكتراث جورج بوش لإستحصال الموافقة الأممية، وضربه القوانين الدولية والأعراف الأخلاقية، ليشن عدوانه الفتاك في 19-3-2003. تستوجب التمعن في السبب أو الأسباب المتوارية خلف كذبة خطر أسلحة الدمار الشامل التي أستغلها زمرة المحافظون الجُدد أسوء وأردىء إستغلال. حيث دفع ثمنها البلدين العراقي خصوصاً والأمريكي عموماً، وحصد ثمارها الجانبين الإيراني والإسرائيلي. عندما أعترف بوش علناً في 13-1-2009 بأنه أخطأ أستعمال عبارة "المهمة أنجزت" التي قالها من على حاملة الطائرات لنكولن في 1-5-2003. فقد كان دليلاً ساطعاً على وجود مقاومة وطنية مسلحة كسرت شوكت الجيش الأمريكي وألحقت فيه هزيمة ميدانية تكللت بالإنسحاب الرسمي قبيل 31-12-2011. أما في الذكرى العاشرة لإحتلال العراق، فعندما نسمع أن بوش يمارس الآن هواية الرسم لدفع الضجر والسأم عن نفسه. فإنه إعتراف نفسي آخر على خطأ الغزو الذي أرتبكه سياسياً وسيلاحقه تاريخياً. أن الإنسحاب العسكري الرسمي الأمريكي نتج عنه إحتلالاً إيرانياً عبر تسليم السلطة بيد الكتلة المصنوعة والمدعومة من قِبل الطغمة الصفوية الحاكمة في طهران. إذ أن قدوم الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد إلى بغداد في 3-3-2008، كان إيذاناً علنياً لقبضة الصفويون الجُدد على ربوع العراق. وكذلك زيارة رئيس مجلس مصلحة النظام هاشمي رفسنجاني التي قام بها إلى بغداد في 2-3-2009. حيث أدعى أن: أهداف زيارته تتمثل في التعبير عن أستعداد تام في نقل خبرات إيران بمختلف المجالات وخاصة الاقتصادية والثقافية والصناعية والتجارية من أجل تطور وتنمية العراق. لكن نواياه الخبيثة إنفضحت بأبتلاع النظام الإٌيراني المسخ لجزيرة أم الرصاص العراقية في شط العرب في غضون زيارته المشؤومة. على أي حال، ونحن نكتب عن الذكرى العاشرة لإحتلال العراق، ودخول القوات الأمريكية إلى بغداد في 9-4-2003. فإن الحُكم الطائفي الذي يقوده نوري المالكي منذ العام 2006 قد أوصل العراق إلى قاع التأخر والتخلف بمختلف المجالات والميادين. ناهيك بالكلام عن السجون والمعتقلات السرية والعلنية التي طالت مئات الآلآف من العراقيين. وإذا إستطاع المالكي أن يخمد ثورة 25 شباط/فبراير 2011 بقتل أكثر من 25 شهيداً في اليوم الأول منها، وتقطيع أوصال الطرقات والمواصلات بالسيطرات والحواجز الإسمنتية، وغلق الجسور والمعابر. فإن الإنتفاضة العفوية التي إنطلقت في الفلوجة بتاريخ 23-12-2012 لتمتد إلى عدة مًدن ومحافظات: الأنبار، نينوى، صلاح الدين، ديالى، بغداد؛ فإن تظاهراتها المليونية في أيام الجُمعات، وساحات إعتصاماتها التي يسودها بشكل كبير تيار شعبي وجماهيري هو إنتفاضة أحرار العراق. فإن المالكي هذه المرة لا قدرة له على فضها بقوة السلاح. لأن هؤلاء المنتفضين سلمياً قد وعدهم قادة المقاومة العراقية أن تحميهم من بطش قوات المالكي. وفعلاً أقوى مجابهة جرت في 12-2-2013 على الساحل الصحراوي بين سوريا والعراق، عندما منيت قوات المالكي بخسارة فادحة، دمرتها فصائل المقاومة العراقية. مما إضطر إعلام المالكي أن يعتم ويكتم أخبار "عملية السيف البتار" بشكل فجائي. أن الأحداث والتطورات الجارية مع ولوج العراق في السنة الحادية عشر من زمن الإحتلال. فإنه يمكننا أن نتناول نظرية أبن خلدون (1332-1406) عن التنبأ بالمستقبل علمياً. أن هذه النظرية قد أخذ بها علم الإجتماع الحديث. ينص أبن خلدون قائلاً: أن الوقائع والأحداث التي تجري في الزمن الحاضر، والتي لها ما يشابهها من الأحداث والوقائع في الزمن الماضي وفي نفس المكان، فإنه يمكننا أن نتنبأ بمستقبلها. وعندما يؤكد أبن خلدون على إدخال السببية في مجال البحث التاريخي، لأن معرفة السبب تمكننا من معرفة المسبب، وإن قراءة المستقبل ترتبط بالأسباب التي تتفاعل في زمننا الحاضر. لذا فإن المستقبل يمكن أن نتنبأ به وفق أُسس علمية. فالتاريخ عند أبن خلدون علم من بين العلوم الطبيعية الأخرى، وظاهرة من ظواهر الطبيعة ليس إلا. ولهذا كتب في "المقدمة" ما يلي: "إنّا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من الترتيب والإحكام وربط الأسباب بالمسببات وإتصال الأكوان بالأكوان وإستحالة بعض الموجودات إلى بعض". ج 1، ص352. وإذا ما طبقنا هذه النظرية على الوضع في العراق بين زمن الاحتلال البريطاني أثناء الحرب العالمية الأولى (1914-1918) وما تبعه من ثورات وإنتفاضات إنتهت بزوال الاحتلال وإنتصار الثوار، وبين الاحتلال الأمريكي منذ العام 2003 وإنسحابه رسمياً بأوآخر 2011، مع إستمرارية النهج الجهادي المقاوم، فإن الاحتلال لا محال زائل وإن المستقبل يتجه فقط صوب القوى الوطنية الباسلة في المقاومة والممانعة. وبما إن الاحتلال البريطاني قد أوجد حكومات عراقية ترتبط به وتحافظ على مصالحه بالدرجة الأساس. ولقد جابهت تلك الحكومات الشعب بأنواع من القمع والإضطهاد، ثم زالت مع زوال الاحتلال البريطاني. لذا فإن نفس هذا المصير سوف يلاقيه كل الذين قدموا على ظهر الدبابة الأمريكية التي أُعلن عن تقهقرها وتراجعها بموعد إنسحابها الرسمي. ومن المؤكد إن لهذه الحقيقة واقع ملموس عند شخوص العملية السياسية. لذلك كان ومازال هدفهم الأول هو مصالحهم الشخصية والفئوية والحزبية على مصالح العراق أرضاً وشعباً. حتى وصل حال العراق وفق المنظمات الدولية المستقلة والشفافة بإنه يتصدر العالم بالفساد الإداري والفقدان الأمني والتدني الصحي والتعليمي والخدمي الخ. والبلاد يزداد فيها فوضى القتل والدمار وإنعدام الخدمات بمختلف المجالات، ولا أحد يكترث للسخط الشعبي المتفاقم الذي بدأ يتحرك في المحافظات الثائرة. بل نجد المالكي يصف المنتفضين بالفقاعة، وأنهم يحملون شعارات نتنة. وعليهم أن ينتهوا قبل أن يُنهوا. هكذا بكل لغة وضيعة وتهديد قبيح وهو المسؤول عن الوزارات الأمنية منذ ثلاث سنوات، ورئيساً للوزراء وقائداً عاماً للقوات المسلحة منذ سبع سنوات. والعراق يتدحرج نحو الهاوية أكثر فأكثر. عموماً إذا كان هذا الحراك الشعبي والجماهيري هو ظاهرة من ظواهر التاريخ والمجتمع، وقانون من قوانينها التي لا تنفصل عن الطبيعة حيث تخضع جميعها إلى نظام عام واحد، كما بيّن أبن خلدون. فإن تحليل أحداثها وردها إلى عللها وأسبابها القريبة منها والبعيدة، تعني وفق المفهوم الخلدوني إن مستقبل الأوضاع في العراق سوف لن تكون لجانب الاحتلالين الأمريكي والإيراني، ولا إلى أذنابهم من الإمعات المسلوبة الإرادة كونهم شخوص إحتلال. بل تكون لصالح القوى الوطنية الحقيقية، المسلحة منها والمدنية المتمثلة بالإنتفاضة الشعبية المتصاعدة يوماً بعد آخر. حيث أن هذه القوى المسلحة والمدنية هي الممثل الحقيقي لإرادة الشعب برفض الإحتلال ورفض كل ما تمخض منه في العملية السياسية والقوانين والدستور. وأن الذكرى العاشرة تعني إنقضاء الكثير وبقاء القليل من زمن الإحتلال وأعوانه. وأن غداً، بعونه الله تعالى، صار أكثر قرباً لناظريه.