قبل عشر سنوات، قامت أميركا ومن تحالف معها بشن عدوان على العراق، أدى إلى احتلاله، وكلها تحت حجج واهية وذرائع ،بينت ان التقارير التي استندت إليها أميركا لتبرير عدوانها، كانت كاذبة. وإذا كان هذا الإعلان الأميركي اللاحق، أعطى دليلاً إضافياً، على السقوط الأخلاقي، لهذه الدولة، التي تقدم نفسها، بأنها مدافعة عن حقوق الإنسان، ومقاومة للإرهاب بحسب مفهومها، فإنها من خلال سلوكها السياسي، مارست إرهاب الدولة، وانتهكت وبشكل صارخ أبسط الحقوق الأساسية للإنسان، وبما يضعها تحت المساءلة الجنائية الدولية، لو كان هناك نظام دولي عادل. قبل عشر سنوات، كانت أميركا ومن تحالف معها، يمنون النفس ببقاء طويل في العراق، لبناء نظام الشرق الأوسط الجديد، لأنه بحسب تقديرات أميركا، ان إسقاط العراق، سيعني إسقاط الموقع الأهم، الذي حال حتى تاريخ بدء العدوان، من تمكين الولايات المتحدة الأميركية من إقامة الركائز العسكرية، التي توفر سرعة التدخل السريع، وتحمي المصالح الاستراتيجية الأميركية في الخليج العربي ومنطقة الشرق الأوسط. ولهذا لم يكن مفاجئاً، أن يقف الرئيس الأميركي بعد شهر على دخول قواته بغداد، بأن الحرب قد انتهت بانتصار" مظفر" لأميركا وحلفائها. وان من كان يهدد المصالح الأميركية وأمن الكيان الصهيوني قد ضرب، وان الطريق أصبحت سالكة لإعادة رسم الخارطة السياسية الجديدة وفق المعطى الذي أفرزه العدوان والاحتلال. هذا التقدير كان يرتقي حد الثبات في العقل السياسي الأميركي، الذي بنى حساباته على معطى موازين القوى المادية من عسكرية واقتصادية وإعلامية، وحيث لا مجال للمقارنة، مع هذه القوى المادية، للطرف المقابل، الذي قاوم العدوان، وهو تحت حصار لأكثر من ثلاثة عشر عاماً، وفي ظل محاصرة عربية رسمية وإقليمية لا مثيل لها بحجة احترام "الشرعية" الدولية. لكن الذي لم تدخله أميركا في حساباتها، ان الطرف المقابل، الذي تصدى للعدوان، لم ير المواجهة مقتصرة على حلقاتها الفنية والمادية وحسب، بل ثمة عوامل أخرى أدخلها في حساباته، وهي قد تكون مرئية لدى الطرف الأميركي، لكن لم يقم لها حساباً، وقد تكون غير مرئية، لأن فائض القوى المادية الذي يحوز عليه، أعمى بصره وبصيرته. هذا هو الذي لم تدخله أميركا ومن تحالف وتقاطع معها في تقييمهم الأولي لنتائج الغزو العسكري. كان العراق عبر قيادته التي أدارت الصراع منذ تداعيات الأزمة مع الكويت، يعتبره نقطة الارتكاز التي يستند إليها الجهد العراقي، في مواجهة هذا الاصطفاف الدولي والإقليمي والعراق. كانت قيادة العراق، تدرك جيداً، أن الآلة الحربية الأميركية، وما تملكه من قدرات تدميرية قوية، قادرة على تدمير المرافق الحياتية والحيوية، كم هي قادرة قتل البشر وحرق الشجر وتلويث البيئة لكن في المقابل مهما امتلكت من قوة فإنها لا تستطيع أن تنتزع من شعب العراق إرادة الحياة، ولا قتل روح التصدي والمقاومة والصمود لديه. وان العراق بما يختزنه من طاقات نضالية، قادر على إعادة التوازن النفسي، أولاً، وعلى إعادة التوازن السياسي ثانياً، وعلى إعادة استلام زمام المبادرة في إدارة الصراع بأشكاله المختلفة، ثالثاً هذا التقدير الذي استند إليه العراق لإعادة التوازن إلى نصاب المواجهة بداية، تمهيداً لقلب معطياتها لاحقاً لمصلحة قوى المقاومة والتحرير، استحضر كل عناصر القوة التي يختزنها في ذاته، ودفع بها إلى أتون المنازلة التي أسفرت بعد تسع سنوات عن دحر الاحتلال لمرحلة أولى، والتأسيس لبداية المرحلة الثانية، التي تتمحور حول اسقاط كل الإفرازات السياسية التي نتجت عن الاحتلال وعلى طريق استعادة العراق لحريته ووحدته الفعلية، واستعادة دوره في مسيرة النضال العربي لتحقيق أهداف الأمة في التحرر والتقدم والوحدة. هذا المستوى من التظهير السياسي للأداء النضالي المقاوم توفر له عاملان أساسيان، شعب متجذر في انتمائه للعروبة ومخزون بوطنيته لا يجف معينة، وأداة سياسية، خبرتها التجربة، وعركتها الحياة، واستقوت بشعبها الذي ما بخل يوماً بعطاء، وما تردد بتلبية نداء واجب. هذه الأداة السياسية، لم تكن نتاجاً سلطوياً، بمعنى أنها لم تشكل بقرار سلطوي، بل كانت السلطة نتاجها، ولهذا لم يكن وجودها في ميادين العمل السياسي النضالي، مرتبط بوجودها بالمواقع السلطوية، بل كانت تعتبر ان الوجود في السلطة، هو وسيلة وليس غاية، لأن غايتها هي تحقيق الأهداف التي نذرت نفسها لأجلها، والارتقاء بالأمة العربية إلى المستوى الذي يليق وتاريخها النضالي وإرثها الحضاري. هذه الأداة السياسية النضالية، التي قادت مقاومة ضد الاحتلال الأميركي، جاء فعلها، ليشكل انسياباً طبيعياً، لبداية المسيرة النضالية التي انطلقت عبر إطاراتها المنظمة لستة وستين سنة خلت. إن الأداة النضالية التي قادت مقاومة المحتل الأميركي للعراق، اثبتت ان هذا الفعل العظيم،ما هو إلا ترجمة ميدانية للاساس النظري الذي أملى ظهورها، والذي شكلت قواعده الفكرية الاختصار المكثف لنظرية الثورة العربية بعناوين ثلاثيتها الجدلية، الوحدة والحرية والاشتراكية. إن الأداة السياسية، هي حزب البعث العربي الاشتراكي، حيث المقاومة هي جوهر منظومته الفكرية، مقاومة التجزئة عبر العمل الوحدوي، ومقاومة الاستعمار عبر مقاومة المحتل والمستعمر وتحقيق الحرية القومية للأمة، والحرية السياسية للشعب، ومقاومة التخلف، عبر نظام اقتصادي، يعتمد الاشتراكية، قاعدة أساسية، وبما يمكن من تحقيق العدالة الاجتماعية. ولهذا فإن حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي قاد مسيرة نهضوية في العراق استمرت لأربعة عقود، كان يختصر في تجربته كل أهداف الثورة العربية، ولهذا شكلت تجربته استفزازاً لكل من لا يريد للأمة العربية أن تنهض وان تنبعث مجدداً، في استحضار مشرف لتاريخها، الذي أرسى حضارة ما تزال شخوصها ماثلة حتى الآن. ان حزب البعث الذي واجه اصطفافات قوى دولية وإقليمية، وهو في موقع السلطة، واجه الاصطفافات ذاتها وهو يقود المقاومة، وقد استطاع أن يدير معركة تحرير العراق بكفاءة سياسية مستنداً إلى رؤية وطنية وقومية، حددت أهدافها المرحلية والاستراتيجية، وفي ضوء هذه الرؤية، استطاع أن يقود تحالفاً وطنياً عريضاً مشدوداً إلى الثوابت الوطنية، ومحدداً مصادر الخطر المنظور والمستور على حاضر العراق ومستقبله. وعندما يكون الحزب الذي يقود هذا التحالف العريض، هو حزب مقاوم بطبيعته، وملتصق بشعبه التصاق الظفر باللحم، فإن أحداً لن يستطيع أن يفك عرى هذا التلاحم، ولهذا عندما ظنت أميركا، ان قرار الاجتثاث، سيلغي حزب البعث من الحياة السياسية العراقية، وقعت في سوء التقدير أيضاً، لأن حزب البعث لم يشكل بقرار وبالتالي لن يلغى بقرار. لا لسبب، الا لأنه يجسد حالة عضوية في مكونات المجتمع العراقي. وإذا كان لأحد ان يلغي شعباً بقرار، استطاع حينئذ ان يلغي حزب الشعب بقرار. أما وان الشعب، هو الثابت في الحياة المجتمعية، فإن كل من يتطاول على هذا الشعب، ويحاول شطب تاريخه النضالي سيكون المشطوب. على أساس هذه المعادلة، فإن الشعب في العراق عبر مقاومته، شطب الاحتلال العسكري الأميركي وسيشطب وبالمعنى السياسي كل الذين يحاولون طمس هوية هذا الشعب، وربطه بفضاء سياسي مسكون بعدائيته للعروبة ودورها الريادي. وإذا كانت انطلاقة المقاومة الوطنية العراقية التي كان لحزب البعث شرف حمل لواء مسيرتها التحررية، انطلقت في نيسان 2003، مزخمة بالإرث النضالي للحزب على مدى عقوده النضالية منذ التأسيس وحتى اللحظة، فإن المرحلة الثانية من مسيرتها تنطلق عبر تزخيم شعبي، لأن المعطى النضالي لهذه المرحلة، هو إعادة الصياغة السياسية لأوضاع العراق الداخلية، على قاعدة وحدة أرضه وشعبه وحماية عروبته. هذا المعطى الشعبي الذي يرخي ظلاله على أوضاع العراق في مواجهة إفرازات الاحتلال والوصاية الإيرانية، هو الذي سيضع حداً لحالة التشظي الوطني، كما سيجهض استحضار الخطاب المذهبي في مواجهة حالة شعبية ووطنية جامعة. وإذ تحل الذكرى السادسة والستين لتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي، حزب الثورة العربية، حزب المقاومة العربية الشاملة، فإن حلولها، يكتسب هذا العام معنى خاصاً، لأنه يضع العراق على أبواب الانبعاث المتجدد الذي يطمح إليه لصياغة تجربة جدية، تستحضر كل المعطى الإيجابي في التجربة السابقة، وتسقط كل ما علق بها من ظواهر سلبية، وفيها يعود حزب البعث ليؤكد بأن، ان الطيف السياسي الذي حرر العراق من الاحتلال هو من يحق له أن يعيد بناء العراق على قاعدة التعددية السياسية والديمقراطية، والتعامل مع الأقليات القومية بروحية اتفاق 11 آذار، وإعادة ثروة العراق إلى أبنائه، لوضعها في خدمة المشروع النهضوي التنموي وخدمة المشروع القومي التحرري. العراق كان دائماً على موعد مع حزبه الثوري المقاوم، في فلسطين ولأجلها، في لبنان ولأجله، في العراق ولأجله، في كل اقطار هذه الأمة ولأجلها، وثورته التي ما انطفأ قبسها، ها هي شعلتها تطل مجدداً من العراق، لتضيء مساحة الوطن العربي الكبير من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي على صدح "بلاد العرب أوطاني".