في الذكرى العاشرة للغزو الأمريكي للعراق، سجل العراقيون أطول تحدٍ لحكومة الاحتلال الخامسة، مع كل ما يحمله ذلك من مخاطر مواجهة ساخنة مع سلطة جائرة وعاجزة عن التعاطي مع الأحداث بنظرة واعية ومسؤولية أخلاقية وقانونية، في حراك شعبي دخل شهره الرابع وبإصرار غير مسبوق وغير معهود في تاريخهم وما يزال في أوج عنفوانه. وإذا ما أعدنا الحراك الشعبي إلى خلفيات المقاومة المسلحة التي خاضها العراقيون ضد المحتلين، فإننا سنكتشف قدرة عالية على اكتشاف معادلة في غاية الأهمية للربط بين الفعل المقاوم بالسلاح للمحتلين، مع جنوح حاذق لتجنيب الجماهير المندفعة باتجاه تحقيق أهدافها مهما غلت التضحيات، أية نتائج محتملة للتصرفات الحمقاء لمجموعة من القتلة المحترفين اللصوص وقطاع الطرق والمهربين والمزورين، ووجدت نفسها على حين غفلة من الشعب والزمن، على رأس سلطة أقامها المحتلون ومدعومة بحراب القوى الأكثر عداء للشعب العراقي، ولا تتورع عن الإقدام على أية حماقة تزينها لنفسها. لقد سجل العراقيون أطول حراك شعبي منذ زمن طويل وبنَفَس غير قابل للاختراق من جانب الطارئين والمحتالين ومزيفي الشعارات وسارقي إنجازات الجماهير، أو من جانب المتواطئين مع أجهزة القمع الحكومية، ولم يسمح المتظاهرون للملل أن يتسرب إلى النفوس المكلومة والمليئة بالغيظ من سلوك الحكومة المنحرف والدموي، والذي تعددت صفحاته بحيث سجلت مبتكرات في عوالم التعذيب لم تعرفها محاكم التفتيش في أوربا في القرون الوسطى، وتفوق على ما يحصل لمسلمي ميانمار في الوقت الحاضر وخاصة حرق الأحياء. يذهب بعض المهتمين بمتابعة تقاليد الشعوب وطبائعها، إلى أن العراقيين ربما هم من بين الشعوب الأكثر احتمالا للإصابة بآفة الملل المفسد لفضيلة الصبر، أسرع من غيرهم وخاصة في مجال النشاط السياسي، وقد لا يتطابق ذلك مع الواقع وربما كانت شواهد دحضه أكثر من شواهد دعمه، ومع ذلك فإن حكومة المالكي والشلة المحيطة به، اقتنعت بتطابق هذه الفرضية مع الواقع من دون أساس تاريخي أو علمي يستند على حقائق علم الاجتماع أو علم النفس الاجتماعي، وبنت على أساس تلك الفرضية حساباتها للتعامل الميداني مع الحراك الشعبي في ست محافظات عراقية وجعلت ردود فعلها محصورة بين قوسين من الهذيان السياسي والأمل الفارغ من تراجع رصيد الانتفاضة الشعبية. لقد كانت الفلوجة المنطلق الأول لهذه الأسطورة الجهادية الجديدة، كما كانت قد انطلقت منها شرارة المقاومة المسلحة ضد الأمريكيين، ولهذا كان هذا الانسجام بين الفعل المقاوم بالبندقية مع الفعل المقاوم بيد عزلاء وصدر مفتوح، يسجل ثنائية فريدة في طرازها ومشرّفة في أصالتها ومعانيها، لمدينة عراقية صغيرة بمساحتها وكبيرة بإرادة أهلها وإصرارهم على نيل حقوقهم كاملة، بعد أن تركوا وراء ظهورهم أي تساؤل مثبط للهمم أو مهير للمعنويات أو ممهد لطرق التراجع الذي حذفته الفلوجة من قاموسها من زمن بعيد. لقد تواصل الحراك الشعبي، وسط ظاهرتين متضادتين... إصرار شعبي على مواصلة هذا النوع من الفعل المقاوم للعملية السياسية مهما طال الزمن وعلت التضحيات حتى تتحقق أهدافه كاملة، وسقط الرهان على حصان الزمن، وانتشرت روح الثورة في كل مكان بما في ذلك المدن الجنوبية التي تمت مصادرة صوتها، وما تزال تتعرض لقمع وتجهيل وارتداد إلى قرون التخلف، على الرغم من أن اسمها يستخدم لقمع الأصوات المطالبة بالتغيير. صحيح أن الحراك الشعبي تواصل في ست محافظات، وصحيح أن المالكي الذي تصرف بحماقة الجاهلية الجهلاء والضلالة العمياء حين أطلق أوصافا على الانتفاضة الشعبية في أيامها الأولى لا تنطبق عليها بقدر ما تنطبق عليه بدقة متناهية، ولكن الصحيح أن اتساع رقعتها أفقيا وتعمق طابعها الجماهيري عموديا، وقدرتها المذهلة على المطاولة التي فاقت كل التصورات والحسابات، هو الذي أصاب حكومة المالكي بصداع سياسي لن تنفع معه كل المسكنات التي تعوَد على إطلاقها كلما مرت فوق مكتبه غيمة سياسية داكنة، الأمر بحاجة إلى عملية جراحية كبرى تستأصل الورم من العيون التي لا تميز بين ابتسامة طفل ودمعته، ولا ترى الحقائق كما هي، ومن الآذان التي لا تميز بين الضحك والبكاء. هذا السلوك المنغلق على الذات الذي واصله المالكي في تعامله مع صيحات الغضب، أدخل حكومته في خانق محكم، مما قلص من هامش خياراتها إلى حدود ضيقة، فإما أن تتراجع عن امتشاق سيف الخشب الذي استلته في البداية ظنا منها أن التهديد سيخيف الناس وإذا به يفجر الخزين المكبوت من الغضب والسخط، فبات لزاما عليها البحث عن خيار آخر وهو الاستجابة من دون تلكؤ أو إبطاء لكل مطالب مدن الحراك الشعبي التي رأت أن حراكها لم يكن ترفا فكريا أو مراهقة سياسية، بقدر ما كان قدرا مصيريا وإستراتيجيا لازما لأية إعادة في صياغة معادلة الانسجام في صمامات الأمن الاجتماعي المانع من انزلاق البلاد إلى أتون حرب أهلية، ربما تتوهم القوى الممسكة بصولجان السلطة أن لواء النصر سيبقى معقودا لها بوجود الأمريكان وبعد هزيمتهم، لأنها لم تكن بمستوى المسؤولية أبدا ولم تحسب كما ينبغي لظرف تتداخل فيه الألوان إلى حدود يصعب فيها التمييز حتى بين الأسود والأبيض، غير أن موانع هذه الاستجابة تبدو مغرية كثيرا أكثر من احتمالات الذهاب إليها، خاصة وأن الحكومة ترى أنها إن أقدمت على الخطوة الأولى فإنها ستنزلق إلى مسلسل من التنازلات لا أحد من أركانها يعرف أين يتوقف. وإما أن تصر على امتطاء بغلة العناد والتي لا تقوى على الذهاب بها بعيدا، فتذهب إلى أسلوب القمع البوليسي المستمد من خلفية فكرية تربت عليها عناصر تلك الحكومة وبنت تقاليد عملها على أساس أن القوة مفتاح لكل الأبواب المغلقة، وأن لغة التخاطب مع الشعب العراقي يجب ألا تتعدى منطق التعالي والوصاية عليه، فهذا معناه أن وهمها هذا هو الذي قادها إلى هذا التصور الساذج بأن اللجوء إلى خيار العنف مع الجماهير سيؤدي إلى انهيار معنوياتها وتشتت صفوفها، من هنا يمكن أن نفهم أسباب ذهاب حكومة المالكي إلى استخدام العنف في الأيام الأولى لاندلاع الاحتجاجات، وتعمدت تحريك الجيش وأجهزة الأمن لفض التظاهرات كما حصل في جمعة لا تراجع في الفلوجة، ولكنها حينما جوبهت برد فعل شعبي ينم عن روح التحدي العراقي الأصيل، أسقط في يدها وبدأت البحث عن خيار ثالث، وهو أسلوب الخديعة في إثارة الانقسام والفتنة في صفوف المتظاهرين، فاستدعت نفرا من ممن أسمتهم رموز مدن الحراك الشعبي، من أولئك الذين عزلتهم مدنهم ومناطقهم وعشائرهم، وأوعزت لهم أجهزة أمن المالكي تشكيل جهاز استخبارات تجسسي على أبناء محافظاتهم، بثمن بخس دراهم معدودة هي بعض من فتات موائد مترفي الزمن الرديء. *********** تحاول حكومة المالكي تلميع صورة الاحتلال عن طريق إقامة فعاليات مغرقة بالمظاهر الخداعة وروح الانتهازية، فأقامت مهرجانا لما أسمته "بغداد عاصمة الثقافة العربية" وعلى الرغم من أن الفعالية ولدت ميتة، لأن الثقافة العراقية الأصيلة هاجرت مع الملايين من العراقيين المهاجرين، لأنها مثلهم مستهدفة بالقتل والمثاقب الكهربائية أو بالخنق مع سبق الإصرار والترصد أو بالسلاح الكاتم، فإن الشلة الفاسدة والمتسترة على الفساد ومن أجل المزيد من ( شفط المال العام )، أصرت على استضافة هذه الفعالية التي بدت غريبة أكثر من غرابة الوجوه التي رعت الحفل، ولسنا ندري أية ثقافة يمكن أن تنمو في بلد انعدمت فيه الكفاءات إلى الحد الذي يتبوأ رجل أمن مشهود له بماض معروف في هذا المجال وزارة الثقافة، وفي نفس الوقت لم تجد الحكومة ضيرا في إسناد وزارة الدفاع له، أهو التكامل بين أداء الجهازين؟ أم هو رسالة لكل مثقف في العراق بأن الثقافة الجديدة لن تمر إلا عبر بوابة الأمن العامة أو وزارة الدفاع الجديدة؟ وهذه من المضحكات المبكيات، ولكن ضحك العراقيين في زمن انعدام الوزن واختلاط الألوان، أصبح أكثر مرارة من البكاء.