ابتلي العراق بعد احتلاله بحكام جهلة، جل هم فريق منهم الانتظام في دورات سرية وعلنية في علم الإدارة، والاستعانة بمتخصصين في هذا المجال، في محاولة بطريقة لا شعورية للتعويض عن الشعور بالنقص أو عقدة النقص التي يعانون منها؛ لأنهم ليسوا من حملة الشهادات، وقد نمى إلى سمعنا أن أحدهم أهمل القضايا الدفاعية والأمنية وملف الخدمات وغيرها، وتفرغ لحفظ نصوص مركزة، ومقالات مختلفة، وبواقع (2- 3) صفحات يوميا، أعدها متخصصون في علوم العربية والقانون والسياسة والإدارة والإعلام، يستعين بها في كلمة مرتجلة أو مؤتمر صحفي أو لقاء ونحوها، تسمعها أذنه من جهاز تسجيل، وتمر عليها عينه في شاشة واسعة، ويكرر السماع والقراءة، ثم يقوم بتسجيلها بالصورة والصوت، مستفيدا من خلفية تردده على مسجد أو حسينية وأشباهها، وتعلمه (تراتيل) فيها في إحدى محطات عمره، أما في هذه المرحلة فوظيفته (بياع كلام) ، وهدفه أن يظهر كرجل دولة وحكم وسياسة وإدارة، أما أرواح وأموال وآلام وآمال مواطنيه فلا تعنيه، لا من قريب ولا من بعيد. ومثل هذا الحاكم لا خير في كلامه، إنما الخير في كلام تعززه أعمال، بل هو منافق وكذاب اشر، ومنتحل صفة أصحاب المنابر؛ لأن القول والفعل لكل منهما أهلون، وأهل القول هم قادة الرأي، أما الفعل فمنوط بالحكام. وإن لحديث: «من رأى منكُم منكرًا فلْيُغَيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» شروحا عدة، منها أن من يغير المنكر باليد الأمراء، ومغيره باللسان العلماء، والمغير بالقلب عامة الناس.ومتى انقلبت المعادلة بأن يلعب السياسي دور الصحفي والإعلامي أو العكس اضطربت الأمور، وطاشت الموازين، واختل نظام الدولة والمجتمع، ولقد بين ذلك بأفصح لسان، عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فقال للناس عشية استخلافه: "إنكم إلى أمير فعّال أحوج منكم إلى أمير قوّال" ، ونُقل هذا القول عن السياسي البارع، والأديب اللامع، الوالي الأموي ثابت قُطْنَة (ت 110 هـ) ، وزاد عليه من نظمه هذا البيت: وإلا أكن فِيكُم خَطِيبًا فإنني ... بسيفي إِذا جد الوغى لخطيبوالإقلال من الكلام، والإكثار من الفعل هو ديدن القادة الحقيقيين ودأبهم؛ ولهذا قالوا: دع أعمالك هي التي تتكلم. ولقد نعى القرآن على اليهود مخالفة أعمالهم منطقهم، فهم يرفعون شعارات البر، وواقعهم الفجور، فقال: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } [البقرة: 44] ، وهذا هو النفاق بعينه، وأركان الحكومة الحالية في العراق مثلهم في ذلك، ومثل الصورة التي رسمها المتنبي لمن هجاهم بقوله: إنّي نَزَلْتُ بكَذّابِينَ، ضَيْفُهُمُ ... عَنِ القِرَى وَعَنِ الترْحالِ محْدُودُجودُ الرّجالِ من الأيدي وَجُودُهُمُ ... منَ اللّسانِ، فَلا كانوا وَلا الجُودُ فإن ما يصدر عن الدول (من الأيدي) ، وما يصدر عن الدولة العراقية تحت مظلة الاحتلال (من اللسان) فقط. أجل !! إن ألسنة هؤلاء القوم سخية، وأيديهم بخيلة، وقس على السخاء كل خلق حميد آخر، وهذا حال عبيد الأجنبي في العراق، فعالهم أعجمية، وأقوالهم عربية، ويتمسحون بالوطنية، فهم كما قيل:كم يدعي وطنية من لم تكن مرت ببابه ؟! ولما كان حكام العراق الجدد من فئة العبيد المطيعين للسيد الأجنبي، القاتل السارق، والماكر الفتان، فإنهم أولى بأبيات المتنبي التالية لبيتيه السابقين في الهجاء المقذع، وهي قوله:مَا يَقْبَضُ الْمَوْتُ نَفْساً مِنْ نفوسِهِمُ... إلاَّ وَفِي يَدِهِ مِنْ نَتْنِهِا عودُ مع قوله:العَبْدُ لَيْس لِحُرٍّ صالح بأخ ٍ ... لَوْ أَنًّهُ فِي ثِيابِ الْحُرِّ مَوْلودُلَا تَشْتَرِ العَبْدَ إلاَّ والعَصا مَعَهُ ... إنَّ العَبِيدَ لأَنْجاس مَناكيدُ