لم يكن غريبا على الاطلاق أن تُرفع صور الزعيم الايراني علي الخامنئي على جداريات كبرى في عدد من أحياء محافظة البصرة في جنوب العراق مؤخرا، فقد غطت جدران المحافظة صور الخميني في الشهور التي تلت الغزو بعدما غضّ الامريكان الطرف عن التغلغل الايراني في العراق. وقد أستفحل الأمر في السنوات التي تلت حيث رُفعت الكثير من صورهِ في الدوائر الرسمية في المحافظة. وقد كان كاتب هذه السطور أحد شهود الأثبات على هذه الحالة. ففي شهر أذار ذ مارس من العام 2008 عقدت الدهشةُ السنتنا ونحن نلجُ الى مكتب أحد الاصدقاء الذي أصبح مدير أحدى الدوائر الرسمية في المحافظة، حيث وجدنا صورة الخميني تعلو الجدار الذي يستند اليه كرسي ذلك المسؤول، وعندما أستفسرنا عن الحالة أجاب الرجل بصورة مقتضبة بأن الجهات التي تُسيطر على المحافظـــة قد أمرت بذلك. لكنّ دهشتنا زالت عندما سألنا ســــائق سيارة الأجرة عن عنوان نود الوصول اليه، فأكّد أنه في الشارع القريب من مركز (أطلاعات) أي المخابرات الايرانية. عندها أدركنا أن الموضوع أكبر من أن يكون رفع صور زعماء أجانب فحسب، بل أختراق أيراني سافر للأمن الوطني بات يستفز المواطن البسيط الذي يتعامل معه يوميا في تفاصيل حياته، مما رفع وتيرة الرفض ودغدغ الكرامة والاباء في النفوس فعلت الاصوات المطالبة بايقاف هذه المهزلة. واليوم تعود صور الزعيم الايراني الحالي لترتفع في عدد من أحياء العاصمة بغداد أيضا وسط ذهول الكثير من المواطنين، وصمت المسؤولين بل تهربهم عن الاجابة عما يعنيه هذا الفعل، الذي هو مؤشر سياسي خالص ليس له أية علاقة بالدين والمعتقدات فالخميني لم يكن رجل دين فقط بل كان رجل سياسة وحُكم فأرتفعت صوره في بلاده، وكذلك رجل الدين الحالي في أيران الذي يوجه السياسة ويمسك بكافة تفاصيلها. أما رجال الدين في العراق فكانوا يثقفون الناس على الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكانوا يترفعون عن كل شيء يُشبّههم بما درج عليه زعماء السياسة من رفع صورهم في الاماكن العامة ودوائر الدولة، لأنهم كانوا يرون أنفسهم دعاة دين الهي حق أعظم من كل الافكار والمعتقدات الوضعية، وأن مكانتهم في النفوس أكبر من مكانة الاخرين الذين ركبوا مركب السياسة، لذلك لم نر صورة أحد منهم تُرفع في الشوارع والساحات العامة على مدى عقود من الزمن الا بعد الاحتلال، من قبل جهات سياسية أرادوا محاكاة ببغاوية لما الفوه أثناء وجودهم في أيران من جهة، ومن جهة أخرى التمسك بأذيال رجال الدين كي يكونوا ضامنين لهم في مواجهة الاستحقاقات السياسية التي تواجههم، وفي تكوين حواضن شعبية لهم من الناس الذين يجلّون ويُقلدّون رجال الدين، بعد أن تبين لهم أنهم غرباء تماما عن الوسط الاجتماعي الذي يعملون فيه. أن الفرق واضح جدا بين حالة رفع صور الخميني بعد الاحتلال وبين رفع صور علي الخامنئي اليوم. فقبل الغزو كان الشعور بهزيمة المشروع الايراني في العراق والمنطقة بعد حرب الثماني سنوات هو الطاغي في نفوس الساسة الايرانيين، وكانوا يريدون أية فرصة حقيقية يزيلوا بحلاوتها مرارة الكأس الذي قالوا أنهم تجرعوه في نهاية الحرب. فكان الغزو والاحتلال أكبر لافتة سنحت لهم كي يكتبوا عليها عبارات البهجة والانتصار على ذلك الشعور الذي عانوه طيلة عقد ونصف من الزمن. فرفعوا صور الخميني في مدن جنوب العراق التي دفعوا دماء غزيرة للسيطرة عليها اثناء الحرب، كما قاموا بفتح العديد من المراكز الاستخباراتية في تلك المدن، في فعلٍ يُعبّر عما يعتري نفوسهم من غليانٍ للحقد، ومحاولة لزرع اليأس الذي عانوه في نفوس المواطن العراقي كي يشعروا بالنصر وهم يرون الاشمئزاز من أفعالهم المستفزة والانكسار من سيطرتهم على المدن يملأ عيون العراقيين. أي أن ذلك الفعل كان لحظة فاقعة لنشوة هزيمة عدو لدود أنتصر عليهم، أكثر منه فعل سياسي وتطبيق لاستراتيجية موضوعة مسبقا. أما اليوم فرفع صور الخامنئي خاصة في العاصمة وفي الاحياء التي تُعتبر أسوار المنطقة الخضراء المحصنة للحكومة، يحمل رسائل سياسية كثيرة للداخل العراقي وللدول المهتمة والمتدخلة بالشأن السوري، كما أن مجهولية الجهة التي وضعت تلك الصور زاد من أهمية الفعل وأحدث اضطرابا واضحا في صفوف جهات سياسية وأجتماعية في العراق. أنه أشبه بالمنشورات السرية التي تستخدمها الاحزاب أثناء العمل السري، كي ترفع معنويات أنصارها من جهة، وتثير الرعب في صفوف السلطة وأجهزتها من جهة أخرى. فلا شك أن الوضع السوري المتفجر يوميا أرعب السلطة في بغداد وقد عبّرت هي عن ذلك في حملات المداهمات الاستباقية في المناطق التي تعتقد انها لازالت لاتدين بالولاء لها، كما قامت بحملات لمصادرة أسلحة المواطنين الخاصة وصدرت فتاوى لتحريم بيع السلاح، وتم نشر العديد من القطعات على الحدود مع سوريا، وتقييد حركة اللاجئين السوريين وتحديد أعمار من يسمح لهم باللجوء. فجاءت فعالية نشر الصور في بغداد للتأكيد على أن الضامن الايراني موجود بقوة في العراق، وأن هذه الصور هي مجرد الجزء الظاهر من التدخل، أما حجم الغاطس منه فلا يعلمه الا صانع القرار الايراني في طهران، وفي ذلك رسالة تحذير للقوى السياسية المشتركة في الحكم والتي ترتبط بالضامن التركي والعربي، كما أنها في الوقت نفسه رسالة تحذير الى هؤلاء والقوى الدولية التي تقف خلفهم، مفادها أن المراهنة على أنتصار الثورة السورية وقيام نظام سياسي محسوب على قوى الاسلام السياسي السني بدلا من النظام السوري الحالي الحليف لإيران، لا يعني بأن العراق يمكن أن يفلت من القبضة الايرانية أيضا، فهو لايمكن أن يكون بعد اليوم الا حلقة من حلقات سلسلة النفوذ الايراني، التي بدايتها في يد المرشد الاعلى وفروعها تتتحرك في سوريا ولبنان واليمن وسواحل أريتيريا وشمال أفريقيا وجنوب شرق أسيا، لكن نهاياتها مازالت لم تحدد حتى الآن بأنتظار نتيجة حوارات تحت الطاولة الجارية بينها وبين الولايات المتحدة كي تتبوأ شرطي المنطقة، أو الاعلان عن قنبلتها النووية التي تعتقد بأنها العامل الذي سيُشرعن دورها. وأذا كانت أيران قد دأبت على التهليل لنجاحاتها في مجال تصنيع الاسلحة الصاروخية، والقيام بمناورات عسكرية ضخمة في الخليج وأستعراض عضلاتها قرب مضيق هرمز، فإن الصور التي ترفع اليوم في بغداد هي أيضا مناورة بالذخيرة الحية لمواجهة كل الاحتمالات غير المحسوبة بالنسبة لها في تطورات الوضع السوري. فالرسالة فيها واضحة جدا بأن نفوذها في العراق ليس له حد معين، وهو نفوذ ديني وسياسي في الوقت نفسه، لأن المرشد الاعلى الذي باتت صوره في العاصمة بغداد أنما يمثل السلطتين السياسية والدينية في نفس الوقت. وقد كان نشر الصور في البصرة قبل بغداد له دلالة عميقة. فالبصرة هي معقل حزب الدعوة الحاكم الذي يدعي بعدم الايمان بنظرية ولاية الفقيه، وأن نشر الصور في معقله هو للدلالة على أن أحزاب الاسلام السياسي الشيعي ستقف موحدة خلف أي قرار سياسي أو عسكري قد يصدر عن طهران سواء أمنت بنظرية ولاية الفقيه أم لم تؤمن. أن النفوذ الايراني السري في العراق والمغطى بأغطية منظمات مجتمع مدني ومنتديات ثقافية ودينية، وشركات سياحية وتجارية وصناعية، وشركات أمنية توفر الحماية اللازمة لرجال دين وسياسة ونواب برلمان ووزراء حكومة، ومراكز بحوث سياسية وأقتصادية ودينية، وفضائيات ومجلات وصحف ومواقع الكترونية، قد أستنفرت كلها في الفترة الاخيرة تحسبا لأي تحرك عراقي داخلي قد يتناغم مع الوضع السوري، وأن الاعلان عن هذا الوجود بصــــور المرشد الاعلى في بغداد هو تتويج لكل البناء الذي أحرزته أيران على مدى السنوات التي تلت الغزو والاحتلال. أنها ممارسة لتعويد الشارع العراقي على تقبــــل هذا الوجود العلني، الذي أختبأت السلطات العراقية منه لأنه ليس لها سلطة أيقافه أو الحد منه. كما أن الوجه الاخر لوجود صور المرشد الاعلى الايراني في شوارع وساحات بغداد والبصرة، هو وجه من وجوه الصراع على المرجعية الدينية. فلقد عملت أيران على مدى ثلاثة عقود من الزمن على تحويل المرجعية الدينية من النجف الى قُم، لوعيها الكامل بدور الفتاوى الدينية في التحشيد السياسي الذي هي في أمس الحاجة اليه هذا اليوم لإستخدامه كأحتياط مضمون في أي مواجهة قادمة، لذلك كانت المبادرة دوما في جمع الخصوم السياسيين العراقيين على مائدة الحوار تأتي من قم وطهران لتعزيز تأثيرها عليهم على حساب مرجعية النجف. صحيفة القدس العربي اللندنية