على أثر زيارة البابا بنديكتوس السادس عشر إلى لبنان وتوقيعه ما أطلقت عليه الكنيسة الكاثوليكية اسم ( الإرشاد الرسولي ) ، واتتنا الفكرة للاستفادة مما جاء فيه من إيجابيات. متجاوزين مواقف البابا السياسية من قضايا أمتنا العربية، ومتجاوزين الحملة المشبوهة ضد النبي محمد، الرسول العربي، التي يروِّجها الإعلام الغربي والصهيوني، سنركِّز اهتمامنا على الجانب الروحي فيما جاء بهذا الإرشاد، وهو حق لنا يحفظه مبدأ حرية الرأي كمواطنين في دول تتعدد فيه الأديان السماوية والمذاهب المتفرعة عنها. وهذا الرأي لا يلزمنا بأي تغيير في مبادئ إيماننا الروحي، بل نعتبر اختيارنا لتلك المبادئ حقاً شخصياً وفردياً نُسأل عنه أمام الله عز وجل، وليس أمام أي أحد آخر ممن يزعمون أنهم ( يمثلون الله على الأرض ) . بداية نرى أنه كما في الإسلام دعوات تحسب أن النفس المسلمة هي الوحيدة الناجية من النار، كذلك في المسيحية دعوات مماثلة. وكما في الإسلام دعوات لتغييب مبد ( لا إكراه في الدين ) ، كذلك في المسيحية هناك دعوات مشابهة. وكما تفرَّع الإسلام إلى مذاهب يحسب كل مذهب منها أنه الفرقة الناجية من النار، وغيره من المذاهب الأخرى هي من الفرق الضالَّة، وعلى قاعدة هذا الزعم تبادلت المذاهب المختلفة اتهامات التكفير والتضليل والتفسيق، فتقاتلت وتذابحت وتكافرت وتفاسقت، تحت ذريعة احتكار كل منها لموقع الفرقة الناجية من النار. كذلك تفرَّعت المسيحية إلى مذاهب يحسب كل منها أنه المذهب الوحيد الذي يحتكر تعاليم المسيحية بينما غيره من المذاهب والفرق سلكت طريق الهرطقة فأخضعها المذهب الأقوى لمحاكم التفتيش والحكم عليها بالموت أو الحرق. وكما في الإسلام انتصرت دعوات النقل على العقل، وساد من بعدها عصر التخلف، كانت المسيحية قد سبقتها إلى ذلك. ومن بعد أن سادت مذاهب النقل الإسلامي مئات السنين، وأخلى العقليون مواقعهم خوفاً من القتل والتنكيل، جاء العصر الحديث ليحمل أملاً جديداً في تاريخ الثقافة العربية ب ( فورة عقلية تنويرية ) بين أوساط المفكرين العرب، وما تزال ( الفورة ) تشق طريقها وإن بصعوبة، فإن ثورة العقل في الدول المسيحية كانت قد سجَّلت نصراً على النقل قبل أكثر من ثلاثة قرون مضت من تاريخ الدول المسيحية. وإذا كان انتصار ( ثورة العقل ) في أوساط المفكرين الغربيين على ( النصوصيين المسيحيين ) لم يؤد إلى إلغاء المسيحية، وهو لم يكن يريد ذلك، كما لم يؤد إلى عقوبات إلهية بتلك الدول، بل على العكس عرفت عصوراً متقدمة جداً من النهضة والرقي، وكان من أهمها أن التكافر والاتهام بالهرطقة قد ودَّعا المجتمعات الغربية إلى غير رجعة، واحتل كل مذهب ديني مسيحي مكانه واحتفظ بكرسيه ومواقعه على الصعيد الدستوري لكل دولة غربية مدنية. وفي المقابل لم يؤدِّ انتصار النقليين في الإسلام إلى مكافآت إلهية، بل على العكس من ذلك عرف الإسلام عصوراً من التخلف والظلمة وما يزال. ولم تقف النتائج عند هذه الحدود بل تخطته وقفزت فوقه ليبقى التكافر والتفاسق والتضالل يشكل منهجاً، يعتبره المتمذهبون السيف المسلول في يد أبناء المذهب ( الناجي الوحيد من النار ) ، والسيف المصلَّت على رقاب أبناء المذاهب الأخرى، التي ليست، حسب زعم ذلك المذهب، أكثر من رقاب ال ( مرتدِّين ) وال ( ضالين ) وال ( فَسَقَة ) ؟؟!!... وإذا كانت معالجة الكنيسة في الغرب، في السنين القليلة الماضية، لإشكالية ( الردة ) قد لامست طبيعة العصر ورافقته وجددت في تعاليمها بما يتقارب مع مبد ( لا إكراه في الدين ) ، وهي بذلك لم تتجاوز فحسب إشكالية الخلاف بين المذاهب المسيحية، بل تجاوزت إشكالية الخلاف بين الأديان كذلك، فإن الخطوة التالية المقابلة، لكي يتم تفجير الألغام بين حدود الأديان مركونة على عاتق المؤسسات الدينية الإسلامية التابعة لكل المذاهب الإسلامية وفرقها. وتدليلاً على أن الكنيسة الكاثوليكية جاءت لتعالج تلك الإشكالية، في إرشادها الرسولي، نقرأ نصاً يؤكد ذلك، ومما جاء فيما أعلن عنه خلال زيارة البابا ما يلي: ( المسلمون يتقاسمون مع المسيحيين الاقتناع بأن الإكراه في الدين غير مقبول، خصوصاً إذا تم بواسطة العنف. ( الاعتراف بتعدد طرق خلاص الأنفس في الآخرةهو بداية أساسية على طريق إنقاذ مجتمعاتنا من التقاتل الطائفي وإذا كان اعتقاد ( خلاص الأنفس في الآخرة ) هو المبدأ الذي أسس لكل اتهامات التكفير والهرطقة والردة والتفسيق والتضليل بحق الآخرين، من أبرز المبادئ التي تدعو إلى التعصب فالتقاتل فالتذابح بين الأديان والمذاهب، قد ولَّى إلى غير رجعة. هذا المبدأ عالجه الإرشاد الرسولي، الصادر عن بابوية روما منذ سنوات، على الشكل التالي، وبما يؤدي بمعناه: إن لخلاص الأنفس في الآخرة أكثر من طريق غير طريق المسيحية، ومنها طريق الإسلام وسواه. وبمثل تلك الدعوة تكون الكنيسة الكاثوليكية قد قطعت نصف المسافة تجاه الاعتراف بالمعتقدات الدينية الأخرى، وما على أصحاب تلك المعتقدات إلاَّ أن يقطعوا نصف المسافة الآخر. قطع نصف المسافة يقتضي إعادة النظر بالقاعدة الفقهية التي تجعل المتغير يلغي الثابتومن أجل تأصيل مبدأ الاتهام بالردة، والصراع الفقهي الدائر حول أولوية الدعوة للإسلام بالحوار أو بالقوة، نوجز بما يلي: في المرحلة المكية من النص القرآني، سادت مبادئ ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) ، و ( وجادلهم بالتي هي أحسن* إنما أنت مبشر لست عليهم بمسيطر ) . بينما الدعوة إلى نشر الإسلام بالقوة جاءت لاحقاً في المرحلة المدنية. وحولها جاء النص القرآني ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) . وعلى قاعدة الناسخ والمنسوخ حسب الفقهاء المسلمون أن ( آيات القتال ) قد نسخت ( آيات الحوار ) ، فغلَّبوا أسلوب الدعوة للإسلام بالقوة. تناسى الفقهاء أن ( آيات القتال ) كانت مرحلية فثبتوها، وأصبحت بمثابة مبادئ ثابتة بالدعوة إلى الإسلام. لا شك فيه بأن الدعوة للإسلام وغيره لا يجوز أن يتم بغير الحوار، لأن الحوار هو الاعتراف بمبدأ الحرية، والحرية ثابت قيمي إنساني، وهو بالتالي ( مبدأ إلهي مقدَّس ) ، تؤكده نصوص القرآن المكية إسلامياً، كما تؤكده نصوص كل المفكرين على مستوى البشرية جمعاء، ومنها نصوص المعاهدات الدولية وفي المقدمة منها مؤسسات الدفاع عن حقوق الإنسان. كما أنه لا شك فيه أن مبدأ القوة مبدأ مرحلي من الواجب استخدامه في حالات استثنائية ومنها الحالة التي تتعرَّض فيه الحرية الإنسانية لأي خطر. واستناداً إليه يكون مبدأ الحرية ثابتاً، ومبدأ القتال متغيراً، وبناء على أسس المنطق بكل أشكاله نؤكد أن المتغير لا يجوز أن ينسخ ( أي يلغي ) الثابت، أي أن مبد ( القتال ) لا يجوز أن يلغي مبد ( الحوار ) . وإذا كان من الصعوبة بمكان إقناع الحركات الإسلامية السياسية بتلك المبادئ لأنهم سيأتون بنصوص أخرى يدحضون بها ما نعتبره حقائق، فإننا نراهن على دور المؤسسات الدينية الرسمية في أن تبادر إلى إعادة النظر بما نعتبره إشكالية الاعتراف بالأديان الأخرى، وإلغاء المصطلحات الفقهية : ( الفرقة الوحيدة الناجية من النار ) ، و ( الفرقة الضالة ) وغيرها من المصطلحات التي تزرع حب التنافس والتقاتل والتسابق من أجل ( دخول الجنة ) ، لأنها مصطلحات تعمِّق الشرخ والفرقة ليس بين أبناء الأديان المختلفة فحسب، بل بين لأبناء المذاهب المختلفة المتفرعة عن الدين الواحد أيضاً. وأخيراً، هل يمكننا أن نعترف بأن لخلاص الأنفس في الآخرة أكثر من طريق؟ لأنه بمثل هذا الاعتراف تطمئن النفوس إلى أنها داخلة الجنة عن طريق الإيمان بالله وحده، وليس عن أي طرق آخر.