إذا كان تعريفنا لشروط الثورة يتلخَّص بوجود قيادة تمتلك خطة للتغيير الجذري وشعباً متحفزاً للتضحية، فهذه الشروط تتوفر على أفضل ما يمكن في العراق وحده في هذه المرحلة التي تهنا فيها خلافاً حول ما يجري على ساحة الوطن العربي. فهناك ثورات تحصل من دون قيادة. وهناك شعارات ظاهرها حق وباطنها باطل، يرفعها حراكيون تتناقض أهدافهم، بعضهم صادق والبعض الآخر مزيَّف. وعلى شتى الأحوال هناك شعب يقدِّم الغالي والنفيس من دون قيادة تضمن له حسن الخاتمة، ومن دون أحزاب تنظِّم وتصوِّب. وبين هذه وتلك تسرح مشاريع الاستيلاء الخارجية على الثورات وتعمل على حرفها عن مساراتها الصحيحة، وتعمل على قطاف نتائجها. بعد تطهيره من دنس الاحتلال الأميركي، في العراق اليوم، تختمر عوامل كثيرة لكنس ما بقي من دنس عملاء الاحتلال الأصيل والوكيل معاً. وبإنجازها تصل الثورة العراقية التي انطلقت منذ اليوم الأول للاحتلال الأميركي إلى خواتيمها ونتائجها الثورية العميقة. وإذا كانت الثورة العراقية قد اجتازت محيطات المتآمرين وعبرتها بكفاءة وشرف فلن تعيق عبورها نحو ضفة التغيير الجذري كل السواقي التي ما تزال تراهن على أحلام إعادة السيطرة عليه. لذا تمر حركية الثورة في العراق في فصولها الأخيرة بما يخيَّل للمتابع من الظاهر وكأنَّ عائقاً كبيراً يحول دون إتمام مهمة التحرير، بينما المتابع المتعمِّق يرى أن رماد الثورة الظاهر يختزن جمراً متقداً فيما يراه الآخرون رماداً مُطفأً لا نار فيه. في أثناء الوجود الكثيف للاحتلال الأميركي كان المراقب لمسرح المواجهة بين الاحتلال والمقاومة يرى كل يوم أكثر من جديد ويسمع أكثر من خبر؛ بينما بعد الانسحاب / الهزيمة، تقلَّصت الأهداف العسكرية أمام المقاومة إلى حد كبير، فتقلَّصت معه أعداد العمليات العسكرية، وظلَّت الحيوية الإعلامية للمقاومة تضخ للمراقبين كل ما لذَّ لهم سماعه. وبعد تغيير الولايات المتحدة الأميركية استراتيجيتها بالانكفاء المباشر عن مسرح العمليات العسكرية، وتسليم الواجهة لعملائها المولجين بإنجاح ( العملية السياسية ) ، التي تعني احتلال العراق بالسياسة، حصل تغيير موازٍ باستراتيجية المقاومة، وتتلخص باعتماد وسائل المواجهة السياسية. ولكن إذا كانت الغلبة في هذه المرحلة للمواجهة السياسية فلا يعني هذا انتهاء الوسائل العسكرية. فهناك أهداف عسكرية متعددة، تنقسم إلى ثلاثة أشكال، وهي: 1- قواعد الاحتلال الأميركي العسكرية التي ما تزال منتشرة في أنحاء متعددة من العراق. وقواعد ومراكز انطلاق عناصر الشركات الأمنية المستأجَرة ممن يقومون بحراسة الديبلوماسيين الأميركيين ومكاتب الشركات الأميركية. 2- أفراد المؤسسات الأمنية والعسكرية الحكومية، ممن لم يلتزموا بتحذير المقاومة، باعتبار أنها حيَّدت تلك المؤسسات من عملياتها العسكرية باستثناء من يعبثون بأمن المقاومين. 3- أفراد ومؤسسات الاحتلال الإيراني البديل تعتبر هدفاً لسلاح المقاومة وعملياتها المباشرة، لأن تواجد هؤلاء على أرض العراق يُعتبر تدخلاً غير مشروع في شؤون العراق الداخلية، بل إن وجودهم بمثابة احتلال مباشر حتى ولو تغطوا بإرادة جزء من العراقيين المنتفعين منهم لتدعيم مواقعهم في السلطة من جهة وتقوية مواقع ميليشياتهم الحاكمة للشارع العراقي والعابثة بأمن العراقيين من جهة أخرى. ومن خلال متابعة بيانات المقاومة، وفي المقدمة منها جيش الطريقة النقشبندية، يستطيع المراقب أن يُلمَّ بتفاصيل صفحات المواجهة العسكرية التي ما تزال مستمرة. وإذا كانت الوسائل الإعلامية التي تدعم وجود ( العملية السياسية ) ، وهي أكثر من أن تُحصى، تقوم بإغفال تلك العمليات، وحتى ولو كانت تلك العمليات قليلة، فهذا لا يعني أن ركوداً موجوداً في أداء المقاومة، وإنما العكس هو الصحيح لأن هناك حركية ثورية مؤثرة تثير الرعب في نفوس العملاء والوكلاء، وإن كانت غير واضحة للمراقب، فإنما تأثيراتها تظهر في حالة الارتباك الدائم التي تلفُّ ليس العملاء فحسب، بل يحسب لها المحتلون من أميركيين وإيرانيين ألف حساب أيضاً. هذا عن المواجهة العسكرية بحدودها ومستوياتها ونتائجها، فماذا يستنتج المراقب من أداء المقاومة العراقية على صعيد المواجهة السياسية؟ إن ( العملية السياسية ) ، المحمية أميركياً وإيرانياً، ليست بحاجة لجهد إعلامي كبير خاصة أمام العراقيين، لكشف جرائمها وفساد أجهزتها وقمعية قياداتها وديكتاتوريتهم ودمويتهم، لأن كل عراقي يشعر بثقل تأثيراتها على حياته في كل لحظة. لذا نستطيع القول بأن الأسباب التي تحفِّز الشعب على الثورة جاهزة ومختمرة، وإذا كانت شروط قيادة الثورة محصنَّة بخطة جاهزة وواضحة، وإذا كانت نتائج الثورة مضمونة بفعل توفر شروطها الموضوعية، نظرياً وعملياً، فهذا ما يقودنا إلى البحث عن جواب لسؤالنا التالي: ( إذا كان التراكم الثوري الكمي قد استوفى شروطه في العراق، فمتى يحصل الانفجار الثوري النوعي؟ ) . لا شك بأن المرحلة الراهنة في العراق، التي تفصل بين هزيمة الاحتلال المباشر وتحرير العراق تحريراً كاملاً، تشكل مرحلة انتقالية لها شروطها وتكتيكاتها المباشرة، لا بدَّ من إتمامها. ولعمق الثقة التي نمحضها لقيادة المقاومة بأمانة الرفيق عزت ابراهيم الدوري، لن نقوم بدور الناصح لأنه من غير المنطقي أن ننصح من أنجز أكبر انتصار في التاريخ ضد أعتى إمبراطورية، بل ما سنقوم به ليس أكثر من محاولة لتفسير ما يجري للقارئ الذي ينتظر متحرقاً ومتشوقاً لمعرفة ما يجري في العراق اليوم، خاصة وأنه يربط نتائج تحرير العراق وتأثيرات هذا التحرير على مجمل ما يجري على مساحة الوطن العربي، فالمقاومة العراقية برؤيتها الاستراتيجية القومية ستشكل مرجعية أساسية لحركة التحرر العربي في المراحل القادمة، وخاصة نحن من الواثقين بأن جزءاً من مخطط الشرق الأوسط الجديد الذي يتم إخراجه على صورة ( الفوضى الخلاَّقة ) ، يستهدف تدعيم ( العملية السياسية ) في العراق ومنع انهيارها، عبر تكريس الاحتلال السياسي والاقتصادي لأكبر موارد النفط من جهة، ومنع استعادة حزب البعث مواقعه في قيادة العمل الثوري في الأمة العربية من جهة أخرى. من خلال مواكبتنا، وقراءتنا، لمظاهر ما يجري في العراق الآن، نستنتج ما يلي: لقد بلغت حالة تراكم عوامل الثورة الشعبية في العراق حدِّها الأقصى، وهي تنتظر حالة الانفجار عبر تكامل الاحتقان الشعبي مع وجود قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي، وهذا ليس من قبيل ما يزعم البعض أنه ( تضخيم كاذب ) ، بل هو من قبيل الواقع الذي نقرأه من خلال حركية الحزب اللافتة في هذه المرحلة. وقبل هذا وذاك، وكي لا يفسر البعض أن الحزب يفكر تفكيراً شمولياً، لا بدَّ من إعادة تأكيد قرار قيادة المقاومة التي يشارك فيها أكثر من خمسين فصيلاً مقاتلاً، وهذا القرار يؤكد على أن من سيحكم العراق هو نظام تعددي تأخذ كل القوى الوطنية فيه مقعدها وتسهم في بنائه على قواعد الديموقراطية الشعبية والعدالة الاجتماعية. ومن أهم مظاهر حركية الحزب، نسرد الوقائع التالية: -بما للحزب من انتشار جغرافي على كل مساحة العراق، وبما لأعضائه خاصية الانتماء الديني والمذهبي المتعدد، فهو الحزب الوحيد بين حلفائه الذي يتميز باتساع التمثيل وشموليته ( شمولية التمثيل الجغرافي والمجتمعي ) . -الزيارات الجريئة للأمين العام للحزب، الرفيق عزت ابراهيم الدوري، ولقاءاته مع كوادر الحزب في معظم محافظات العراق. تلك الزيارات التي قام بها متحدياً كل منظومات العملاء الأمنية. ولم يستثن مدينة بغداد بالذات المزروعة بكل أنواع المخابرات، وعلى رأسها مخابرات عملاء ( العملية السياسية ) ، ومخابرات الاحتلال الأميركي والفارسي. -تنفيذ معظم العمليات العسكرية بشتى أنواعها التي قمنا بتفصيلها في مقدمة المقال، وبشتى محافظات القطر. -إعادة تنظيم حزب البعث تنظيماً ثورياً بعيداً عن عوامل الترغيب بالسلطة، وممارسة الكثير من النضالات في أكثر من محافظة، التي ربما تجاوز البعض من البعثيين تعليمات القيادة لهم بأن يؤدوا دورهم النضالي بالاندفاع المدروس، لكنهم استبقوا مراحل الانتقال التدريجي بالعمل النضالي بخطوات أسرع مما كان مطلوباً منهم وذلك عائد إلى اختزانهم طاقة نضالية عالية. ومن أهم الأمثلة على ذلك ما يحصل في محافظات الجنوب وفي المقدمة منها مدينة كربلاء التي يزعم النظام الإيراني بأنه مسيطر عليها سيطرة تامة. بل تبَّين له ولعملائه أنهم ليسوا مسيطرين على شيء، بل ملأهم الغرور والوهم بقوتهم، فراحوا يتوهَّمون ويحلمون. وسيجدون أنفسهم في لحظة الحسم أنهم أضعف بكثير مما يحسبون. هذا من حيث واقع المقاومة الملموس، وقد يكون ما هو مستور عندها أكثر فعالية وتأثيراً مما نحسب. هذا إذا ما جمعنا إلى هذا الواقع ما يمكن للفصائل الأخرى أن تقدمه، فسوف تتضاعف حساباتنا الإيجابية ساعتئذٍ، خاصة وأن الكثيرين ممن هم غير محسوبين على قوائم المناصرين للمقاومة سيحسمون مواقفهم لمصلحتها بعد أن تدق النفير في ساعة الحسم. وإذا ما قمنا بحسابات على قاعدة موازين القوى بين فلول الاحتلال وجبهة المقاومة فإننا نلحظ تقدماً كبيراً تحرزه المقاومة في أدائها الجبهوي من جهة، وأدائها السياسي مستفيدة من حالة التآكل والاهتراء في العلاقات بين أطراف ( العملية السياسية ) من جهة أخرى. وهنا لا بدَّ من وضع حسابات الوضع المعنوي لأطراف العملية السياسية خاصة وأنَّ الاختلاف على تقسيم جبنة المنافع من الحكم يزداد ويتفاقم، وتنتصب المتاريس بينهم، وقد وصلت أوضاع العلاقات إلى حدود التراشق باتهامات الفساد والسرقة في كل دوائر المؤسسات الحكومية. فما بالنا إذن عندما تكون جبهة الخصوم مفككة وتزداد تفككاً، وليس في الأفق المنظور، ولا غيره، ما يدل على أن ترقيع الفتوق بالعلاقات بينهم قد يتم إصلاحه. ولكن كل ما هو متاح لكل منهم لن يكون أكثر من أن يقوم بتدعيم أرجله الخشبية باتفاق هزيل من هنا أو من هناك. وتبقى ورقة المتأرجحين بمواقفهم ممن أخطأوا في حساباتهم عندما انساقوا بفعل الخوف من الاحتلال والطمع بما قد يقدمه لهم من مكاسب وهؤلاء جلهم من القيادات العسكرية والأمنية. هؤلاء الذين وجدوا أنفسهم على هامش ( العملية السياسية ) يقومون بخدمتها مجاناً، فلن يدافعوا عنها، عندما تصبح حياتهم مهددة بعد أن تنهار الخيمة التي كانوا يتظللون بها. ولهذه الأسباب نرى أن هذه الشريحة ستنحاز بمواقفها المؤيدة لصالح شعبهم، وصالح المقاومة العراقية. لكل تلك العوامل والأسباب نرى أن ساعة الحسم لن تطول، فهي تقترب لأن عوامل الانفجار الثوري النوعي تزداد، خاصة أن الشعب العراقي قد ذاق الأمرَّين من الاحتلال وعملائه، وهو متحفزٌ للخلاص في أية لحظة. فيا شعب العراق الأبي، لم يعد بينك وبين الخلاص إلاَّ مسافة قصيرة، فعملاء الاحتلال جبناء لأنهم سيلوذون بالفرار منذ أول طلقة ستدوي في قلب ما يزعمون أنها تحصينات وبروجاً يتوهمون أنها مشيَّدة. فهؤلاء هم من شدة رعبهم أصبحوا على شفير الهاوية، وسيهوون إلى قعرها مع أول انتفاضة شعبية تنزل إلى شوارع المدن العراقية.