كما الحرب هي أمتـداد للسياسـة بطرق أخـرى، فـإن تفجيرات يـوم الاثنين 23 مـن الشهر الجـاري وماسبقها هي أمتداد للتشظي السياسي والصراع على السلطـة في العـراق الجديد على حد وصفهم. لا أستثناء لأي طرف من جريمـة المشاركة في الـذي يجري، فالجميع باتت أيديهم وأنيابهم ملطخة بالدم الطهور، ووقع رقصاتهم في فجر نهاراتنا الوحشية يرن في مسامعنا. أستمرار العراق بؤرة ساخنة وبركان أنفجارات يومية دموية أصبح مفيدا لكل شركاء العملية السياسية. من يحتكر ثلاثـة أرباع السلطـة يجد في هـذه التفجيرات مساحـة مهمـة لتعزيز حركته كي يحشد جهده في المزيد من الاقصاء والاجتثاث على الآخرين، بعـد أتهامهم بأنهم يقفون وراءهـا. أمـا الخصوم فيجدون فيها فرصة سانحة للتشهير بمن يملك السلطة والقرار الأمني، محاولين أستغفال شعبنا بأنهم في موقع معارضة السلطة التي لازالوا ملتصقين بكراسيها، ويأبون مغادرة مواقعها. وبين هؤلاء وأولئك يمتد خندق الحقـد الاعمـى ونوازع الجشع وشراهـة امتيازات السلطـة، ليتساقط فيه مئات الابرياء من النساء والاطفال والشيوخ شهداء تحت سقوف منازلهم أو في الطرقات. وبعـد كـل دائرة عنف يخرج علينا رئيس السلطـة التنفيذيـة كـي يبرر عجـزه عـن الحـد مـن عمليات القتل، فيشكل لجنـة تحقيق تولـد وتمـوت في نفس اللحظـة، ولا أحـد يعرف منها خبـرا أو نتيجـة، ثم تمضي الايــام ليطل علينا بعد فترة قد تطول أو تقصر حسب مقتضيات الصراع السياسي بينه وبين الشركاء، كي يعلن علينا بأن مـن قـام بالتفجير قـد يكون نائبا أو وزيرا أو زعيم كتلـة أو قائمـة، فحرب الملفات قائمة على قـدم وساق بينـه وبين الآخرين. أو أن يكتب أحد قـادة الاجهزة الامنيـة سيناريو الحادث ويلقنه الى مجموعـة مـن الابرياء الذين تكتظ بـه سجون السلطـة، بعـد أن أستنفدوا أمـوال ذويهم بالابتزاز، فباتوا مجرد ضحايا تحت الطلب ينتظرون متى تلصق بهم تهمة المادة 4 أرهاب، في أقذر عمليات صناعة الاتهامات والتجريم والاعدامات السرية التي تشهدها البشرية في العصر الحديث. لقد عجزت أجهزة السلطـة الامنيـة والاستخباراتية عـن أيقاف مسلسل العنف الجاري في البلاد منذ أكثر مـن تسع سنوات، على الرغـم مـن أنتظامهم في دورات تخصصيـة أشرف عليها حلف الناتـو، الذي لازال يمدهم بالمعلومات الاستخباراتية من خلال غرف عمليات مشتركة داخل العراق وخارجه، والسبب في ذلك لأن العنف بات تجارة رابحة للنائب والوزير وزعيم الكتلة. فبالعنف يطمئن الجميع الى أستمرار مخصصات الخطورة المضافة على رواتبهم المليونية، وتشغيل جيش الاقرباء والاتباع كحمايات لهم، والذين بعضهم مجرد أسماء وهمية يستلم بهم المسؤول رواتب مضافة له. وبالعنف أيضا يبقى المسؤول يستقل سيارته المدرعة، ويضمن الحيـاة الرغيدة لعائلتـه التي تقيم في أحـدى الدول الاوربية، التي تبرر له قضاء صيف العراق في أجواء لندن والدول الاسكندنافية. والأهم من كل ذلك هـو أن العنف يعني مزيدا مـن العقود التجاريـة مـع الشركات المتخصصـة بأنتاج المعـدات المضادة ومستلزمات الحماية، التي غالبا مايكون أبن المسؤول أو أخيه أو قريبه وكيل تلك الشركة، وبالتالي فإن عمولات العقد هي رصيد مالي مهم لايمكن التخلي عنه. وأمام هذه الدائرة المغلقة من المصالح والامتيازات المادية والسياسية التي تخدم فئة محـددة، فإن كل الدورات الامنيـة والتقنيات التكنولوجيـة التي يدعي المسؤولون بأنهم قـد حصلوا عليها، فأنها تبقى عاجـزة تماما عـن تحقيق الأمن المجتمعي، خاصة في ظل فقدان العامل الرئيسي في تحقيق الأمـن، الا وهـو التعـاون مـابين المجتمع والاجهزة الأمنية. فكيف نطلب مـن المواطن التعاون مـع أجهزة ترسخت لهـا في ذهنيتـها صورة شيطانية تصنع من الابرياء مجرمين، وتطلق سراح المجرمين بتزوير الافادات أو بالتهريب من السجون الى خارج العراق ؟ بل كيف يمكن أن يطمئن المجتمع الى أجهزة باتت تحمي المسؤول وليس البناء المجتمعي والوطن، وتحولت الى أداة في الصراع السياسي القائم بين أطراف السلطة، تتابع وتراقب وترصد تحركات الشركاء في العملية السياسية أكثر من متابعة أعداء الشعب والوطن ؟ أن الانقسام الحـاد بين السلطـة والمجتمع، أفقـد السلطـة مجسات الاستشعار التي تحشـد بها قـوى المجتمع لصالحها، وتجمع جهده لتحقيق برامجها وتصحيح خطاها على كل الاصعدة . كما أن حالة الصراع التي تعانيها السلطة نفسها نتيجة تقاطع المصالح وغياب الهدف وتعدد الاجندات، خلق حالة مـن الفوضى المتضادة التي لا يمكن أن تولـد منها الا المزيـد مـن الازمات، والجمود الـذي سيبقي المجتمع خارج حركة الزمن. وما تعطل القرار الأمني الا نتيجة منطقية لتعطيل التنمية السياسية التي أصابت كافة مناحي الحياة في العراق بالشلل التام. أن التصريحات المتكررة للمالكـي المتبجحـة بأستقـرار الواقـع الأمني وحصول كـل هـذه الاختراقـات الكارثية، تثبت لكل المترددين المراهنين على العملية السياسية وشخوصها، بأن من يراهنون عليهم مجرد زمر من الجهلة والأميين الذين يفتقرون الى عنصر القيادة، وأنهم ابعد مايكونوا عن وصفهم برجال دولة. صحيفة القدس العربي اللندنية