يحتفلون بعيد استقلالهم .. ونحتفل بذكرى نكبتنا ..هم يستحضرون نصرهم وقيام دولتهم ومناصرة العالم كلّه أو جلّه لهم، فيرقصون ويغنّون.. ونحن نتذاكر الأمجاد الغابرة مثلما يستدعي شعراؤنا القدامى ديار الحبيبة.. ويقفون على رسوم دارسات.. فيَبكون.. ويُبكون.. هكذا كانت الصورة على الضفّتين.. إلى حدود قريبة جدّا. أمّا في أيّامنا هذه فقد جرت في النهر مياه كثيرة تنبئ بتغييرات آتية بلا ريب. بعد أربعة وستّين عاما على قيام "دولة إسرائيل" ما زال الصهاينة يعيشون هاجس الفناء، ويتوجّسون شرّا من المستقبل. وربّما لهذه الأسباب يبدو هذا الكيان غريبا في تشكيله، غريبا في مكوّناته، غريبا في أحلام أهله.. مثلما كان غريبا في نشأته. لا أعرف بلدا في العالم يحمل أهله حقائب الرحيل على ظهورهم في انتظار اللحظة الصفر سوى "إسرائيل"، ولا أعرف بلدا يعيش غربة المكان وحصار الجغرافيا مثلما يحصل لـ"إسرائيل". توجد شواهد كثيرة من داخل الكيان الصهيونيّ، في تفكير قادتهم ومفكّريهم ومنظّريهم وفلاسفتهم ومثقّفيهم.. كلّها تعاني مأزقا واحدا: رهاب الفناء.. والعدم. "إذا تخلّى أعداؤنا عن أسلحتهم فسيسود السلام، ولكن اذا تخلّت إسرائيل عن أسلحتها فلن يكون لدولة إسرائيل وجود".. هذا ما قاله رئيس وزراء الكيان الصهيونيّ بنيامين نتنياهو قبل حوالي سنة. وهذا القول يستدعي بالضرورة عملا لا ينتهي من أجل التسلّح والحفاظ على أسباب التفوّق على "الأعداء". وهو أمر لا يمكن ضمانه إلى الأبد، بل لا توجد شواهد تاريخيّة على أنّ التسلّح والاعتماد على القوّة وقضم الأراضي وشنّ الحروب الاستباقيّة وكسر إرادة الطرف الآخر.. عوامل من شأنها أن تضمن للأقوى أسباب البقاء.. إنّ نهاية الحلم الصهيونيّ عبر التمدّد وقهر الأعداء والتربّع على المنطقة وربّما على العالم قوّة مهابة مسائل حاضرة باستمرار في الضمير الجمعي للصهاينة.. في عقلهم الباطن. وقد عبّر وزير الدفاع الصهييونيّ السابق موشي دايان عن الفكرة ذاتها منذ عام 1953 حينما قال: "علينا أن نكون مستعدين ومسلّحين، أن نكون أقوياء وقساة حتى لا يسقط السيف من قبضتنا وتنتهي الحياة (أي تزول إسرائيل)". النهاية.. ذلك هو الكابوس الذي يزعج الصهاينة منذ لحظة النشأة.. وما زال يرافقهم حتّى اليوم..ولهذا فإنّ الصهاينة "يشترون شققاً في الخارج تحسّبا لليوم الأسود". واليوم الأسود في عرفهم ليس سوى نهاية "إسرائيل". وقد كشف خبراؤهم هذا السلوك الذي عزّز المخاوف الصهيونيّة أثناء انتفاضة الأقصى قبل أكثر من عشر سنوات. في 2003 كتب أحد المحلّلين الصهاينة مقالا في صحيفة (يديعوت احرونوت) أثار ضجّة ولغطا كبيرين لأنّ الكاتب قال إنّ "كثيرا من الإسرائيليّين يشكّون فيما إذا كانت الدولة ستبقى بعد 30 سنة، وهذه المعطيات المقلقة تدلّ على أن عقارب الساعة تقترب من الساعة 12 (لحظة نهاية إسرائيل)." يتحدّث كثير من المفكّرين عن حتميّة نهاية دولة الصهاينة في فلسطين المحتلّة لأسباب تتعلّق بالعامل الديمغرافيّ وعنصريّة الكيان.. ولكن كذلك بخيار المقاومة وتأصّله. وهذا الخيار بالذات هو مقتلهم.. كتب المعلق "الإسرائيليّ" ايتان هابر في يديعوت احرونوت في 11 نوفمبر عام 2001 يقول:" إنّ جيش الحفاة في فيتنام الشمالية قد هزم المسلّحين بأحدث الوسائل القتالية (الجيش الأمريكيّ)، ويكمن السرّ في أنّ الروح هي التي دفعت المقاتلين وقادتهم إلى الانتصار. " أمّا المفكّر العربيّ عبد الوهّاب المسيري فقد أكّد أنّ ثمّة قانوناً يسري على كل الجيوب الاستيطانيّة وهي أنّ الجيوب التي أبادت السكّان الأصليّين مثل أمريكا الشماليّة وأستراليا كتب لها البقاء، أمّا تلك التي أخفقت في إبادة السكّان الأصليّين مثل الجزائر وجنوب إفريقيا فكان مصيرها إلى الزوال. ويدرك المستوطنون ان الكيان الصهيوني ينتمي إلى هذا النمط الثاني."إسرائيل" أقيمت في المكان الخطأ وفي الزمان الخطأ.. و"جيش الحفاة" هو الذي سيقوم بتصحيح الخطأ، ويتكفّل بترجمة كابوس النهاية إلى حقيقة ماثلة. akarimbenhmida@yahoo.com