( إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عمل ) صدق الله العظيم مقارنة بين المشروعين ووسائلهما وأهدافهما : ولقد ثبت تاريخيا أن العرب بكل دياناتهم وتعدد ألسنتهم وقبائلهم كانوا متعايشين متسامحين متعاونين، وحتى عندما فتحوا البلدان، لدعوة الشعوب والأمم المختلفة للتوحيد وعبادة الله، لم يضطهدوها أو ينهبوا خيرات تلك الشعوب، بل حرروها سواءا من الملوك والأباطرة والحكام الذين كانوا يتخذون عباد الله خولا وعبيدا لهم، يقتلون ويظلمون ويقربون من يشاءوا دون سبب أو جرم، وإنما إتباعا للهوى والمزاج الشخصي لأولئك الملوك والحكام، كما هو في بلاد فارس والهند وبلاد ما وراء النهر، أو تحريرهم من الغزاة والمحتلين، الذين يضطهدون الشعوب وينازعوهم ثرواتهم، بل حتى يحاربوا معتقداتهم، كما هو في فتح العراق والشام ومصر وبلدان أفريقيا، ولم يستطيع العرب اليهود والمسيحيين أن يعيشوا بأمان وأطمئنان، ويمارسوا طقوسهم الدينية ومعتقداتهم، بشكل كامل وبحرية وفق كتبهم وما جاء به أنبياء الله عليهم السلام لهم، إلا بعد الفتح الإسلامي وتحرير بلدانهم من المستعمرين، ولذلك كان موقفهم في تلك الفتوحات مع إخوانهم المسلمين ضد مغتصبي حقوقهم وظالميهم، رغم أن الروم يدعون أنهم مسيحيون، ولكن مسيحيتهم محرفة عن التوراة والإنجيل، فهي ليس ما أنزل في الألواح على كليم الله موسى عليه السلام ( التوراة ) ، ولا ما جاء به كلمة الله للعذراء مريم وروح منه نبي الله المسيح عليه السلام في الأنجيل. لقد توسعت دولة الإسلام، حتى بلغت الصين شرقا ووصلت الى جنوب فرنسا غربا، نعم توسعت بهذه المساحة الشاسعة، ووصل العرب خلال ثمانين عاما الى بلدان العالم المختلفة، ما لم تستطع الإمبراطورية الرومانية منه خلال ثمانية قرون، لأن العرب المسلمين لم يفتحوا البلدان لإستعمارها ونهبها، بل لتحريرها من الشرك ومن الظلم، وتحقيق العدالة في تلك المجتمعات، وفقا للتشريع الديني الصحيح الذي جاء في كتب السماء جميعا، فحقيقة الفتوحات الإسلامية إنها حروب مع الجبابرة والظلمة ومع المحتلين الأجانب، ولم تكن مع الشعوب، ولذلك وقفت الشعوب التي وصلها العرب المسلمين معهم، وقاتلوا معا أولئك المحتلين، رغم كون أبناء تلك الشعوب والأمم لازالوا على دياناتهم القديمة، أي قبل أن يعتنقوا الإسلام، ولم يكن التعامل في دولة الإسلام مع الناس على أساس العرق والدين، بل كان على اساس الإيمان بالله وشريعته السمحة، وعلى أسس الولاء للأمة والإداء في العمل الصالح ، فأولئك سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي من أعلام الصحابة، والمقدمين عند رسول الله ومؤسس دولة العرب الحديثة وخلفائه الراشدين من بعده، ولو عدنا للتاريخ لوجدنا أن معظم إدارات الدولة كانت بيد العرب المسيحيين واليهود، لكونهم ذو خبرة وتجربة في مجال الحساب والإدارة أكثر من المسلمين، وأسس تعامل الدولة العربيبة الإسلامية قائم على أساس المساواة في الحقوق والواجبات، وعلى أساس المواطنة الصحيحة، لا يحكمها شيء أخر، فالكل مواطنون في الدولة لا علاقة بمعتقدهم الديني أو إنتمائهم العرقي بذلك، ولهذا نجد كثير من أمراء الجيوش ( الجند ) كانوا من المسلمين غير العرب، فهذا طارق بن زياد واحدا من أشهر وأبرز قادة الفتح الإسلامي، كان من الأمازيغ ( البربر ) ، وذاك أبو صفرة قائد جيوش الدولة الأموية من الأعاجم، وصلاح الدين الأيوبي صاحب الشهرة في معارك العرب ضد الصليبيين كان عرقيا كرديا، وبيبرز وقطز المملوكيان شواهد على ذلك، فالعرب المسلمون لم يكونوا يتعاملون مع مواطنيهم على أساس عرقي أو ديني، وإنما كان تعاملهم وفق الشرع الديني، الذي شرعه الله والرسول العظيم محمد، أن القرآن ينص على: ( لا يمنعكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم والله يحب المقسطين ) ، ورسول الله يشرع في الحيث الشريف أن: ( لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ) ، ولم يولي العرب المسلمين حكاما وملوك على غير البلدان العربية من العرب، بل كان ملوك الأمم وحكامهم من بينهم، ممن يرتضوه هم حاكما إن أسلم، ولم يجبر العرب المسلمون أي من الشعوب على اعتناق الدين بالسيف بل كانوا يفتحوا كثيرا من البلدان بالصلح، على أن يدفع الحاكم جزية لدولة الإسلام مقابل أن تكون مسؤولة عن أمنهم وحمايتهم، تسقط هذه الجزية عن كل من يعتنق الإسلام، فقانون المسلمين يقوم على أن للمسلمين ماللعرب وعليهمما على العرب، وأما الجزية من غير المسلمين فهي مبلغ ضئيل مقابل إعفاء غير المسلم من واجب القتال عن البلاد ورد العدوان عنها، تسقط عن كل مواطن يساهم في الدفاع عن الوطن والأمة، ولهذا وبه إنتشر الإسلام وتوسعت رقعة دولته، نعم لقد تحقق ذلك بالعدل والتسامح وضمان حقوق الآخرين وعدم إجبارهم على تغيير قناعاتهم وعقائدهم قسرا، بل بالدعوة الى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة والإقناع بالحجة البينة والخلق والقدوة الحسنة، بينما الذي حدث عي دول الغرب أن التعددية مرفوضة، ليست التعددية الدينية فقط، بل حتى التعددية المذهبية في ظل ( الدين الواحد ) الرسالة الواحدة، بل حتى عدم قبول التعددية المذهبية في الدين المسيحي، الذي يدعي الغرب أنهم يدينوا به، والحروب الدينية والطائفية في دول الغرب مشهورة وتملأ كتب التاريخ، حتى أن المؤرخين ينقلوا كيف كانت الإحتفالات تقام شكرا لله على قتل المخالفين مذهبيا هناك، وقصص الإضطهاد للمخالفين كثيرة ومعروفة في هذا المجال، وهذا هو الفرق النوعي والأخلاقي بين الفتح العربي الإسلامي وبين الإحتلال الغربي الإستعماري. هكذا هو قانون العرب والإسلام، لم يعتبروا من يخالفهم في المعتقد الديني عدوا، ولم يضطهدوا مخالفيهم بالرأي والعرق، حتى من غير الموحدين وأتباع الرسالات السماوية الأخرى كالمجوس والبوذيين والزرادشتيين، وأتباع الديانات الوضعية في البلدان التي حكموها العرب بعد الفتح الإسلامي، ولم يمنعوهم من إداء طقوسهم وفق مللهم، ولهذا كانت دولا ذات غالبية غير مسلمة كالهند والفليبين وغيرها تعيش بأمان وإستقرار في ظل الدولة العربية الإسلامية، أما الغرب الإستعماري فإنهم لا يقبلون مخالفا لهم بالرأي والمعتقد، ولقد كان إجتياح الغرب لدولة العرب في الأندلس ( إسباني ) وما شهدته من فعل الروم ( الغرب ) بالعرب والمسلمين من مصائب، وقتل جماعي، وإرغام على تغيير المعتقد الديني، إلا نموذجا لعدم قبولهم الآخر المختلف عنهم بالرأي، وما الحروب الصليبية إلا شاهدا آخر على ذلك، ولم يكتفوا بما نتج عن تلك الحروب من ويلات، بل توجهوا لتطويق الدولة العربية الإسلامية وماجرى بالفتوحات الغربية في أفريقيا وآسيا خاصة الهند والفليبين التي كانتا من حواضر الدولة الإسلامية، والتي بدأها البرتغليون والإسبان في القرن الخامس عشر الميلادي، ثم جاءت الحملة الفرنسية على مصر والشام نهاية القرن السابع عشر للميلاد، التي أشتهرت بحملة نابليون بونابرت، وكيف كان تصرف جيوشه وماهي وسائله التي لاتختلف عن وسائل أمريكا اليوم في العراق، فقد إعتمد الفتنة دينيا وعرقيا ودعى المسيحيين العرب في مصر والشام إلا قتال إخوانهم وأبناء جلدتهم على أساس الإختلاف بالديانة، وطالبهم بتشكيل جيوش مع قوات فرنسا ليكونوا مرتزقة وخدما للفرنسيين، ولكن المسيحيون العرب إدركوا أهداف فرنسا ففشل المسعى الشرير، وهزمت فرنسا وجيوشها في بداية القرن الثامن عشر، ولو إنها لم تخلوا من العملاء والمضللين الذين فعلوا ذلك، وسقطوا بالفتنة، وعندما وصل نابليون إلى أسوار عكا وجه ندائه الشرير ليهود أوربا بدعم فرنسا لإقامة أمبراطوريتها في الشرق مقابل إعطائهم فلسطين دولة لليهود كما ورد في كتابهم، على حد زعم وتفسير اليهود لما ورد في التوراة، التي حرفوها ولم يبقى من كتاب النبي موسى عليه السلام شيء، وهذا يكشف أن المطالبة بوطن لليهود في فلسطين لم تكن مشروعا يهوديا بل هو مشروع غربي إستعماري أول من طرحه فرنسا على لسان إمبراطورها نابليون بونابرت، ولم يكتفي السعي الغربي المعادي للعرب فعادوامرة أخرى ليغزو قلب العالم الإسلامي الوطن العربي، حيث جاء الفرنسيون فإحتلوا الجزائر عام 1830، ثم إحتل الإنكليز عدن ( جنوب اليمن ) عام1838، وأحتلت فرنسا تونس عام1881، وبريطانيا أحتلت مصر عام1882 من ثم السودان، وإحتل الطليان ليبيا عام 1911، وتوسعت فرنسا فإحتلت المغرب عام 1912، وأكتمل إحتلال كل الوطن العربي عام 1916 وتقاسمت بريطانيا وفرنسا بلدانه ورسمت تجزئته بموجب معاهدة سايكس بيكو صيئة الصيت، ومن ثم جاء الحدث الأكثر عدوانية وتماديا في العداء وهو إقامة كيان عدواني عنصري إستيطاني هو الكيان الصهيوني على أرض العرب وفي واحدة من أهم مقدساتهم الدينية في فلسطين والقدس الشريف، ماهذا إلا تعبيرا عن إعتبارهم العرب والإسلام عدوا لهم، وهذه وقائع وتواريخ مشهودة ومعروفة، وليس من وحي وخيال نظرية المؤامرة. كما أسلفت، فعند مناقشة أو تحليل أسباب العداء الغربي الإمبريالي للأمة ودستورها الإسلام، ليس من باب التحامل والعمل بنظرية المؤامرة، لكن من خلال الوقائع والشواهد والبينات، فالعداء الإمبريالي للعرب وأديانهم حقيقة ثابتة بالوقائع والبينات، فالإسلام كدين يعتبر التعددية سنة من سنن الله تعالى، فالاسلام كدين أكد على التعددية وحرية المعتقد، فالنص القرآني يؤكد ذلك، ( لا إكراه في الدين ) البقرة 256، ( ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ) ، ( إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن إهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل ) الزمر 41. والعرب كأمة عريقة ذات باع معروف في تاريخ التطور البشري والإنساني، تعايشت فيما بينها ومع الآخرين في محيطها بسلام ورخاء، ولو لم يكن ذلك حقيقة، لما تمكنت من أن تكون رائدة البشرية، في مجال التمدن والحضارة، فالتمدن والحضارة ما هما إلا نتاج قوم واعين متطورين مدركين، متعاونين وآمنين مستقرين في بلدانهم وحياتهم، وهذا بالضرورة إنعكس على مجمل فعلهم وحراكهم، وهو أحد أهم شروط التطور والعمران والرقي والإبداع، فينتج مستوىَ راقيا من العلاقات والمفاهيم، تنقل مستوى التفكير والإبداع الإنساني الى مرحلة متقدمة عن سابقتها، وكما ورد في بداية بحثنا فإن العرب كأمة تعددت فيها الرسل والرسالات، منهم من أمن ومنهم من ضل، ولكن النتاج الحضاري في وطنهم وعبر العصور يؤكد أنهم كانوا متعايشين بسلام وتسامح رغم إختلاف دياناتهم، ولا يمكن لمجتمعات مفككة متناحرة أن تنتج حضارة، فالتخلف والفرقة والحروب تؤدي لزوال الحضارات وتدميرها، وهذا هو مضمون المنهج الديني عموما والإسلامي بشكل خاص، فقد ورد في الإنجيل: ( كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب، وكل مدينة أو بيت منقسم على ذاته لا يثبت ) ، وورد في القرآن: ( وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ ) الأنبياء:11، هنا تأكيد رباني على ما قلناه، وهو إن العرب كانت أمة قوية بوحدة أبنائها، وتعاملهم السليم وفق روح المواطنة، والإعتراف بالأخر وإحترام خصوصياته وحقوقه.