المقدمة : أعزائي القراء! مرة اخرى، وكعادتي اقتبست مقولة هذا العنوان من مثل في انجيل متى، الفصل25، ليس من اجل المعنى الديني لهذه المقولة، ولكن فقط من اجل معناها الانساني المشترك بين البشر. فخلاصة المقولة ان سيدا اراد السفر، فسلم لعبده الأول خمس بِدَر وسلم للعبد الثاني ثلاث بدر، اما العبد الثالث فسلم له بدرة واحدة، وأوصاهم ان يتاجروا بماله حتى يعود من السفر. فلما عاد السيد من السفر تقدم اليه العبد الذي كان سيده قد ائتمنه على خمس بدر، وقال له: يا سيدي، لقد ائتمنتني على خمس بدر، فتاجرت بها وربحت فوقها خمس بدر اخرى. ثم تقدم العبد الثاني الذي كان قد اؤتمن على بدرتين وقدم لسيده بدرتين اخريتين كان قد ربحها هو الآخر. ثم تقدم منه العبد الثالث، وقدم بدرته لسيده ولم يكن قد ربح فوقها شيئا، لأنه كان قد حفر حفرة في الارض وأخفى هناك المال الذي اؤتمن عليه. فوبخ السيد ذلك العبد على كسله وعلى قلة امانته، ثم أخذ منه المال الذي كان قد سلمه اياه وأعطاه للعبدين الأولين، في حين امتدح ذلك السيد العبد الأول والثاني قائلا لكل منهما: احسنت ايها العبد الصالح الأمين! كنت أمينا في القليل فسأقيمك على الكثير. المعنى الأولي للمقولة : اما المعنى الأولي للمقولة فواضح، فبحسب رأيي المتواضع يريد كاتب الانجيل ان يؤكد على نقص امانة العبد الثالث، اكثر من تأكيده على امانة العبدين: الأول والثاني. فالعبد الثالث، الذي يرمز بكل تأكيد الى شعب العهد القديم، لم يكن أمينا على عهده مع سيده، كما ان شعب العهد القديم لم يكن أمينا مع الهه، هذا الاله الذي كان، وحسب كتاب العهد القديم، قد عقد عهدا مع ابراهيم بأن يكون الهه واله شعبه، شرط ان يحفظ هذا الشعب وصايا الله، وعلى رأسها وصية الالتزام بالحق والعدل والمحبة، لكي ينال بركة الهه ومواعيده. غير ان المثل الذي اقتبسنا منه مقولة العنوان، يريد ان يقول لنا بأن شعب ابراهيم الذي كان يدعي انه شعب الله، لم يكن امينا لا مع الله ولا مع ابيه ابراهيم، وانما كان خائنا لهذا العهد، ولهذا نزع الله منه البدرة التي كان قد وهبها له، ليعطيها لشعب آخر، حتى صارت الشعوب الغريبة عن الله، وصار جميع الهامشيين اولين، بينما صار اولئك الذين كانوا يحسبون انفسهم ابناء ابراهيم، ومالكي مواعيد الله، آخرين. اما العبد الاول والعبد الثاني فيمثلان فـي فكر كاتب الانجيل، جميع المنتمين الى العهد الجديد، لأن الجميع كانوا في زمن عنفوان ايمانهم الجديد. فإلى هؤلاء جميعا، قد تحولت كل بدرات العهد القديم والوعود التي قطعها الله لأبينا ابراهيم، كما تحول اليهم العهد الذي ابرمه الله معه. غير انني ارى، وبدون مجاملة لأحد، ان وعود الله وعهده تحولت ايضا، فضلا عن العهد الجديد المسيحي، الى عهد جديد آخر، هو العهد الجديد الاسلامي، لأن المسلمين ايضا يعتبرون انفسهم اولاد ابراهيم، ان لم يكن بالجسد فهم كالمسيحيين اولاد ابراهيم بالروح، دون ان ننسى كل الناس من ذوي الارادة الصالحة، غير المنتمين لا الى المسيحية ولا الى الاسلام، بل ينتمون الى اديان أخرى، او لا ينتمون حتى الى دين معين، ولا الى شريعة محددة، بل ينتمون بالروح الى شريعة الضمير المكتوبة في قلب كل انسان. غير ان الانتماء الجسدي، او الانتماء الاجتماعي غير كاف، كي يحصل الانسان على مواعيد الله، بل يحتاج الانسان الى فضيلة الأمانة للعهد الذي قطعه مع الهه، لكي يصير اهلا لمواعيد الله. علما بأن الأمانة المطلوبة من الانسان، يجب ان تكون أمانة حقيقية، كما يريدها الله نفسه، وليس كما تريدها مصلحة الانسان. وهنا لا يفيد الانسان ان يدعي انه ابن ابراهيم، او انه معمذ باسم المسيح، او انه من الذين ينتمون الى الاسلام بتلاوة الشهادتين، لأن الله، كما يقول الانجيل، قادر ان يقيم من الحجارة اولادا لإبراهيم، ولأن الله لا يقبل من الانسان ان يكرمه بشفاهه، في حين يكون قلبه وتكون مواقفه بعيدة عنه، اي بعيدة عن الحق والعدل والمحبة. لذلك يكون علينا جميعا ان نحذر من الغرور. فها ان الفأس التي تكلم عنها السيد المسيح، موضوعة على اصل الشجرة، وكل شجرة لا تعطي ثمرا صالحا تقطع وتلقى في النار، لكي يستطيع صاحب الارض ( الله ) ان يزرع شجرة اخرى عوضها تعطي الثمار في موسمها. وفي الواقع، ان ما حصل في عالمنا البشري، من مآسي وكوارث، وما ارتكب في ايامنا من خطايا، يجعلنا نسأل انفسها ونقول: ترى هل بقي ايمان على الارض؟ وهل بقي ضمير انساني، وهل بقي شيء اسمه العهد مع الله؟ وعليه نرى ان ما حصل للعالم وما حصل خاصة للأمة العربية ولدولها، وما حصل لسياسيينا الأصلاء والمزعومين، وما حصل لكتابنا ولمثقفينا، وما حصل لرجال ديننا، كبارا وصغارا، قد كشف المستور والمخفي، حتى بان للعالم كله ما كنا نخجل منه وكنا حريصين على التستر عليه، سواء كان ذلك في دنيا عالم الأقوياء ام في دنيا عالم الضعفاء. فما حدث في الواقع يمكن تشبيهه بفيضانات وسيول جارفة، كشفت مكنونات حضاراتنا البائسة وأخلاقنا المتدهورة، مع تدهور اخلاق ابناء النظام العالمي الجديد، وأخلاق النظام الديني الجديد، بشكل عام، وأخلاق النظام الكنسي الجديد، بشكل خاص. وهكذا يحذرنا هذا التأمل من الخيانة في امورنا الانسانية المهمة، لكي لا نخسر جميعنا مواعيد عهد الله معنا ونضيع دعوتنا الانسانية والإلهية، على حد سواء، عندما نعبد الها اخر من دون الله: اله القوة بكل اشكالها: القوة العسكرية والقوة المالية والقوة السياسية، وأحيانا قوة الجماهير الغوغائية المخدرة بمخدرات لا علاقة لها بالحق والخير والعدل، مثلما خسر من كانوا قبلنا دعوتهم الالهية والإنسانية، وخسروا انفسهم ايضا. تعددية معاني الأمانة : غير ان معنى الأمانة، لا يقتصر فقط على ما نجده في كتبنا المسيحية والإسلامية المقدسة، وذلك لأن حياة الانسان، بكل ابعادها، تقع بين قطبي الخير والشر، وقطبي الأمانة والخيانة، بكافة مستوياتهما الصغيرة والكبيرة. ففضيلة الأمانة هي فضيلة واحدة، لكنها متعددة في مواضيعها وتطبيقاتها. فهناك مثلا امانة الانسان تجاه ذاته الشخصية، او تجاه عائلته. كما ان الأمانة مطلوبة بين الأصدقاء، وفي الوظيفة والمهنة، بكافة اشكالها وصنوفها. غير ان اعلى درجات الأمانة هي الأمانة للوطن، لأن هناك توحد حقيقي بين الانسان والوطن. اما الأمانة لله وللأخلاق الحسنة، والثوابت الانسانية، فلا نضعها في قمة الهرم، لأن هذه الثوابت جميعها، يجب ان تكون مبثوثة ومشاعة في كل اعمال البشر، الصغيرة منها والكبيرة. المعنى العام للنص : وبعد! لم يبق لي سوى ان أعود بالقارئ الكريم الى بداية عنواني الذي يقول: كنت أمينا في القليل فسأقيمك على الكثير. وبما اننا تكلمنا باختصار عن المعنى الأولي الانجيلي، سوف نحاول ان نتكلم ايضا عن المعنى العام الانساني والروحي للنص. اما هذا المعنى العام فيقول: من يتعلم أن يكون أمينا في الأمور الصغيرة الاعتيادية، فانه سوف يكون مستعدا لمواجهة الأمور الكبيرة والصعبة بنجاح. لذلك نرى ضرورة ان يقوم المرشدون والمربون الروحيون بتوجيه الناس نحو الأمانة المتعلقة بالحق والخير، بشكل مكثف وواضح وهادف، من خلال المواعظ والتعليم المتنوع الذي يعطى للناس من كافة الأعمار، شرط ان يُفهِمَ المعلم والواعظ والكاتب قراءهم بأن الأمانة في الأمور الصغيرة لا تكفي ولا يجب ان تكون نهاية مطاف حياتهم الروحية الانسانية، بل عليهم ان يستعدوا لمجابهة الأمور الكبيرة والصعبة، متى ما حصلت. وهكذا يكون التعليم تعليما حقيقيا، وليس مجرد تعليم بديل يقف على حدود الايمان، ولا يصل اليه ابدا. وهكذا، ومن خلال تربية الناس تربية مبدئية راقية ترفض الخطايا الكبيرة مثل الخطايا الصغيرة، يصير الانسان مستعدا لمجابهة البراغماتية والميكيافلية، في الأمور الصغيرة والكبيرة، على حد سواء. كما يصير ضمير الانسان المتلقي للتوجيه الايماني الحقيقي، ضميرا نيرا يميز بين الخير والشر بسهولة، حتى في الأمور السياسية التي فيها قدر كبير من الخداع والتضليل، ومن امكانية تجاوز الحق والعدل، في حالات كثيرة. ويقينا، لو كان انساننا العراقي والعربي قد تربى هذه التربية الصالحة ما كان يمكن ان يتجاسر ويسمي الاحتلال تحريرا، ولما انطلت عليه اكاذيب الكذابين، ولما انخرط فيما يسمى العملية السياسية بهذا الشكل المخزي. وعليه يمكننا ان نجزم بأن سقوط الكثيرين في حبائل المحتلين ومساهمتهم معهم في تدمير الوطن، انما هو ناتج عن ضعف في التربية الدينية والأخلاقية والوطنية. فإذا ما كان حساب الله والتاريخ عسيرا وقاسيا مع المقصرين، فان هذا الحساب سيكون اقسى مع رجال ديننا، مسيحيين ومسلمين، لأن كثيرين منهم صاروا مثالا سيئا، وحجر عثرة، لمن وثق بتعليمهم. توسع في معنى نص العنوان : اما اذا قلبنا هذه المقولة بشكل منطقي، فسوف لن يختلف الأمر كثيرا، عما كان عليه في نص العنوان. غير اننا سوف نحصل على معنى آخر نضيفه الى مقولة العنوان: معنى لا يختلف كثيرا عن المعنى الأول، لكنه يوسع ويمد معنى هذه المقولة، بما يشكل اثراء للعنوان وفائدة اكبر للقراء. اما التوسع الأول في المقولة الانجيلية فيقول لنا: من كان أمينا في الأمور الكبيرة، ولاسيما اذا جاءته بالصدفة وعلى حين غرة، فان امانته في الأمور الصغيرة تكون مؤكدة، بحيث يمكن الاعتماد على امثاله في قيادة المجتمعات والشعوب. توسع آخر في نص العنوان : غير ان عنواننا، مع توسع بسيط، سوف يكون هذه المرة عنوانا خطيرا ورهيبا، لأن هذا التوسع البسيط والمنطقي سوف يقول لنا: من لم يكن أمينا في الأمور الكبيرة التي تجابه الانسان فجأة، فانه لا يمكن ان يكون امينا في الأمور الصغيرة اليومية، اللهم إلا اذا كانت هذه الأمانة امانة مزيفة تصير بديلا وتعويضا عن الأمانة الحقيقية التي يطلبها الله من الانسان في الوقت المناسب. وكمثال لهذه الأمانة المزيفة نذكر اولئك الذين يصفون البعوضة ويبلعون الجمل، كما قال السيد المسيح، ويظهرون الأمانة لله من خلال بعض الطقوس والرتب الدينية، ويزاولون بعض الفروض السطحية والمريبة احيانا، بسبب صبغتها المسيسة، في حين لا يتورعون عن فعل الخطايا الجسيمة، ضد اخوتهم البشر وضد اوطانهم. لماذا كان هذا العنوان ؟ : قرائي الأفاضل! مع اني لا اريد ان اكشف بشكل مباشر من كان في بالي عند اختياري لهذا المقال، فاني اعترف بأن هذا المقال جاء نتيجة معاناة كبيرة، وآلام حقيقية، بسبب ما شاهدته من نقص في الأمانة تجاه الحق والخير والعدل والوطن والأمة عند كثير من السياسيين، مسيحيين ومسلمين، لكي لا نتكلم عن الشعب العراقي المخدر والمضلل بشتى الأضاليل. غير ان ما شاهدته عند كثير من اخوتي رجال الدين، من كل الاديان والمذاهب، من استهتار بالأمانة تجاه الوطن، كان السبب المباشر لكتابة هذا المقال. اما ما زاد في المي وحزني فهو الموقف الغريب المخجل الذي وقفه كثير من رجال الدين المسيحي، من كل المراتب، من القضايا الكبرى للأمة والوطن، حتى ان الكثيرين منهم وظف طقوسه الدينية لخدمة حالة الاحتلال الجديدة، عندما اكد على البعد التراثي القومي المزيف لهذه الطقوس، وألغى جميع التحديثات اللاهوتية والتعبدية والطقسية، على قلتها، والتي كان ابناء الستينات والمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني قد اوجدوها في كنائسهم، انسجاما مع الحضارة الانسانوية التي دخلها العالم، قبل ان تحل علينا كارثة النظام العالمي الجديد وكارثة النظام الكنسي السلطوي الجديد الذي حل في الكنيسة من خلال وسوسة شياطين البيت البيض، ووحوش وإرهابيي اليمين المتطرف، وأعوانهم، في الغرب والشرق، وفي كثير من البلدان العربية الفاقدة السيادة، وفي مقدمتها نزلاء المنطقة الخضراء، الذين يحكمون العراق اليوم بوحشية، بأمر امبريالي صهيو امريكي. أما اذا عرفنا بأن ما حصل بعد الاحتلال في الكنائس، من قبول للمحتل ولسياساته الاجرامية الخرقاء، ولعبثه ببنى العراق التحتية والفوقية، قد حصل خاصة، على اعلى المستويات، فإننا لا يسعنا سوى ان نتساءل ونقول : ترى اكان الاحتلال لابسا طاقية جن، بحيث ان كذا عدد من الرؤساء الدينيين المسيحيين، كبارا وصغارا، تصرفوا تصرفا غير مشروع، وكان الاحتلال غير موجود اصلا، او كأن ما حصل في العراق قد حصل نتيجة ثورة مشروعة. ام ان امورا اخرى لا نريد ان نتكلم عنها الآن قد جعلت، رجال الدين هؤلاء، يرون في القرود والخنازير غزلانا، ويتصرفون مع وطنهم تصرفا فيه كثير من نقص في الامانة لله وللوطن وللمبادئ السامية، بحجج واهية لا تنطلي حتى على المجانين. وفي الختام لم يعد امامنا سوى ان نقول: اذا كان رجال ديننا يعرفون انهم يسيرون في الطريق الخطأ الذي يمكن ان يحاسبهم القانون عليه يوما، عند اول تغيير يحصل في البلد، ومع ذلك يواصلون السير في هذا الطريق، فتلك مصيبة، وإذا كانوا لا يعرفون جسامة ما يفعلونه الآن بعد الاحتلال، فان المصيبة اعظم.