لا أشك أبدا أن عنوان الموضوع سيستدعي شجبا واستنكارا من أطراف كثيرة تنتمي لتيارت سياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ودينية ولا دينية متطرفة أو معتدلة على حد سواء، بعضها صادق مع نفسه، ويتبنى موقف منهجيا ضد أحكام الإعدام من دون أن يلتفت إلى موقف الأديان السماوية من هذا الموضوع، وبعضها الآخر وهو الغالبية العظمى، تريد أن تركب موجة لها رصيد من البريق والوجاهة السياسية أو الاجتماعية، أو البروز على مستوى الصحافة والإعلام ومنظمات المجتمع المدني أو البحث عن مستقبل سياسي، على الرغم من أنها وهي ترفع صوتها بإدانة إصدارأحكام بالإعدام، فقد تكون قد فرغت لتوها من تنفيذ أحكام إعدام بالجملة بمعارضين سياسيين، من دون أن يخضعوا لتحقيق نزيه أو محاكمات عادلة. رفض تطبيق أحكام الإعدام لم يترسخ كتقليد سياسي واجتماعي لا في العراق ولا في كثير من بلدان الشرق الأوسط، وهو حتى اليوم لا يستند على قناعات حقيقية، وإنما كان مجرد صرعة موسمية أشبه بموضة الأزياء، أو موجة لها وهج لا يمكن التفريط به، وبخاصة أن الجوائز الدولية ومن أسماء لم يعد بالإمكان حصرها، بدأت تنهال على بعض الأسماء المغمورة والتي نقلتها من المجهول إلى عالم الأضواء. ربما سيتبادر إلى الذهن لآول وهلة، بأنني أتبنى موقفا دينيا من موضوع بات يشغل الرأي العام العالمي ومنظمات حقوق الإنسان والمنظمات الحقوقية والقانونية الدولية، غير أن هذه الفرضية لم تخطر ببالي لأنني لا أريد الجدال في إدخال أمور الدين في القضايا السياسية، فأنا أعي جيدا أن التداخل بينهما يلحق بهما معا ضررا بالغا، ثم أنني لايمكن أن أرفض موقفا قاطعا وحكمت به الأديان السماوية ويستند على مبدأ ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن ) ، فذلك شرع الله و لا جدال في معرض النص ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . نفذت السلطات الحكومية في العراق أحكاما جديدة للإعدام قاربت من 70 حالة منذ بداية العام الحالي بتهم مختلفة، لم تتوفر في إجراءات التقاضي فيها شروط العدالة المطلوبة، ويبدو أن الحكومة في طريقها لتأكيد سيادتها الوطنية، في هذا المقطع من العلاقات الخارجية، وعدم سماحها لأي طرف مهما كانت صفته ومهما بلغ وزنه، بالتدخل في الشؤون الداخلية للعراق، الغارق حتى آخر شعرة من رأسه بالتدخلات الخارجية والتي لا تجيد التحدث باالغة العربية. سياسة الحكومة في تنفيذ أحكام الإعدام وصم أذنيها عن النداءات الخارجية، أثارت ردود فعل متفاونة بين غاضبة أو مستنكرة بإعلان هادئ أو صامت، من جانب المنظمات الحقوقية والمنظمات الدولية المستقلة والتابعة للأمم المتحدة، وربما كان أعلاها صوت منظمة هيومن رايتس ووتش الأمريكية، ليس لسبب إلا أنها تحمل الجنسية الأمريكية التي تمنحها حصانة التحرك في كثير من الساحات، على الرغم من أن الولايات المتحدة تتحمل المسؤولية الأخلاقية والجنائية في كل ما وقع ويقع في العراق منذ الاحتلال الأمريكي عام 2003، وخاصة عمليات القتل والتعذيب والتهجير التي طالت الملايين من العراقيين، ولكن هيومن رايتس ووتش لم تتحرك في حينها ساكنا، بل صمتت كصمت أهل القبور. موقفي المؤيد لعقوبة الإعدام ليس تطابقا مع السلطة القضائية المسلوبة الإرادة والمشلولة تماما، وكذلك فهو ليس تعاطفا مع السلطة التنفيذية التي تؤكد سطوتها ونفوذها من خلال تنفيذ أحكام الإعدام حتى نسيت قول الله سبحانه (وأن تعفوا أقرب للتقوى)، بحيث ذهب بعض المراقبين للتساؤل عما إذا كان قانون العقوبات العراقي خاليا من أية عقوبات غير الإعدام؟ عقوبة الإعدام لها شروطها سواء في الشرائع السماوية أو في القوانين الوضعية، ولا يجوز للسلطة القضائية التي حملت أمانة الدفاع عن الحق والعدل، أن تجرّم بريئا استنادا إلى نية مبيتة بالانتقام أو الخصومة السياسية، ولهذا تشددت القوانين في طرق اختيار القضاة ووضعت ثلاث درجات للتقاضي، يستطيع من خلالها المتهم أن يصل إلى الحكم الأقرب إلى تحقيق العدالة المثلى، كما ضمنت للمتهم توكيل محام عنه، توخيا للوصول إلى أعلى درجات العدالة المطلوبة. وكما أن السياسة دخلت في الدين ففعلت فيه ما يفعل الخل بالعسل، فقد دخلت في القضاء بأقصى ما يمثله التدخل من درجة، ففقد القضاء استقلاله وأصبح ذراعا ثالثا بيد السلطة التنفيذية، بعد الأجهزة الأمنية والمال السياسي، فذهب الكثيرون ضحايا لنزوات السياسيين وحروب التصفيات بينهم بحق حينا، ومن دون وجه حق في معظم الأحيان. في أحيان كثيرة يكون الإعدام انقاذا في لحظات خاطفة، لحياة أناس يموتون في اليوم الواحد على مدار الساعات، تحت سياط الجلادين المجهزين بخبرة تعليمية وطوروها من خلال الممارسة الميدانية، وخاصة حينما تطلق لهم الصلاحيات ولا يتعرضون للمساءلة القانونية عما يرتكبونه من جرائم تحط من كرامة الإنسان، وأخطر ما في الانتهاكات التي يتعرض لها المعتقلون، حينما تحظى بدعم المراجع العليا التي توفر مظلات الحماية خروجا على القانون، وتنصلا من المسؤولية الأخلاقية الواجب توفرها بكل من يتصدى لوظيفة عامة، فالإعدام فيه حفظ لكرامة الإنسان وخاصة إذا كان المعتقل سياسيا وينتمي لتيار آخر تبحث السلطات له عن ثغرة ما ويمكن أن توقعه في قبضتها، من أن تنتهك طيلة مدة الإعتقال بما في ذلك التهديد بانتهاك الأعراض، سواء كانت شخصية أو لشخص قريب كالزوجة أو البنت أو الأخت، أو حفلات التعذيب التي توصل الإنسان إلى أن يكون الموت منجاة من الحالة الأسوأ. لو أن السجون في أي مكان من دول العالم الثالث خاصة، تخضع للمعايير القانونية والإنسانية، وتخضع لرقابة قانونية من أجل ضمان تطبيق المعايير الدولية في هذا الشأن وخاصة في الملفات السياسية، ولو أن القضاء يمارس دوره بنزاهة ويطبق القانون بعيدا عن تدخل الخصوم السياسيين من ذوي النفوذ والسلطة، لما نُفذ حكم إعدام واحد في الملفات السياسية اطلاقا، ولما دخل المعتقلات نحو 99 بالمئة من المعتقلين، لذلك فإن ثورة قانونية تبدو مطلبا ملحا لتوفير العدالة الحقيقية، وبعدها يمكن الحديث بموضوعية عن الموقف من عقوبة الإعدام.