ما ان هدأت الضجة التي اثارها رئيس الحكومة نوري المالكي بتوجيه الاتهام الى نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي بارتكاب جرائم قتل وتفجيرات ضد الناس الابرياء، واقصاء نائبه صالح المطلك من منصبه، حتى أثار ضجة اخرى شملت هذه المرة حيدر الملا وسليم الجبوري، وكلاهما اعضاء في المجلس النيابي المزعوم. ومعلوم ان المتهمين الثلاثة اضافة الى المطلك هم من الرموز القيادية في قائمة اياد علاوي، الخصم اللدود والمنافس القوي للمالكي. وبصرف النظر عن صحة الاتهامات او عدم صحتها، فانها تعد ضربة قوية ستؤدي الى كسر شوكة علاوي واضعاف قائمته وربما تمزيقها على المدى القريب. لكن هذا ليس كل شيء، فاستثناء الهاشمي من الاعتقال دون عناصر حمايته، والسماح له بالهروب الى شمال العراق، كان القصد منه وضع القيادات الكردية في موقف حرج، لعلم المالكي بعدم قدرتها على تسليم الهاشمي للحكومة خشية من تازيم علاقة الكرد بتركيا وامارات الخليج، اضافة الى خلق فجوة بينهم وبين "المكون السني". وبالتالي سيحد من مطالب مسعود البرزاني التعجزية التي ليس بامكان المالكي تلبيتها، خاصة المطالبة بضم كركوك الى اقليم شمال العراق. بمعنى اخر اراد المالكي من كل ذلك ضرب عصفورين في حجر واحد كما يقال. ومن الطريف ان يختزل العراقيون كل ماحدث بالمثل القائل " حاميها حراميها". ما حدث وبهذه الطريقة المباغتة لا يدخل، من وجهة نظرنا، في خانة الصراعات التي كانت تدور في السابق حول توزيع المناصب وتقسيم الغنائم وسرقة المال العام، وانما يعد هجوما منظما يهدف من وراءه نوري المالكي الى اختزال نظام المحاصصة الطائفية والعرقية داخل الحكومة والبرلمان وجميع مؤسسات الدولة وحصرها بطائفته، وفق مقولته الشهيرة " اخذناها وبعد ما ننطيها"، تمهيدا لتقديم العراق على طبق من ذهب لايران وتحقيق حلمها التاريخي بابتلاع العراق واعتباره جزء لا يتجزا منها، فليست مصادفة سيئة ان يتزامن هذا الهجوم والتهديدات التي اعقبته باللجوء الى تشكيل حكومة اغلبية، مع التصريحات التي ادلى بها علنا قاسم سليماني، قائد فيلق القدس ومسؤول الملف العراقي، والتي قال فيها وبالحرف الواحد"إن العراق وجنوب لبنان يخضعان لإرادة طهران وأفكارها، وأن بلاده يمكنها أن تنظم أية حركة تهدف إلى تشكيل حكومات إسلامية في هذين البلدين"، وهذا ما يفسر صمت المالكي، صمت القبور، عن هذا التدخل السافر في شؤون بلد مستقل وذا سيادة كما يدعي، في حين اقام المالكي الدنيا ولم يقعدها حول تصريحات رئيس الوزراء التركي التي عبر فيها عن خشيته من اندلاع حرب طائفية او اهلية في العراق بسبب قضية الهاشمي. بمعنى اخر فان المالكي لا يستطيع تشكيل حكومة اسلامية، اي طائفية، كما يريد ملالي طهران، اذا لم يقصي الاطراف الاخرى في العملية السياسية، اوعلى الاقل تقزيمها والقبول به كحاكم مطلق دون منافس او منازع، الامر الذي يعبد الطريق امام ايران وملاليها لاحتلال العراق بطرق مختلفة بعيدا عن الاحتلال العسكري التقليدي تحت ذريعة ملء الفراغ. اذا كان ذلك صحيحا، ترى ما هي الاسباب التي دعت المالكي القيام بهذا الهجوم وفي هذا الوقت بالذات؟.اصل الحكاية، وبعد ان خلا ملالي طهران الى شياطينهم، ثم استاخروا كعادتهم، تخيلوا بان القوات الامريكية انسحبت من العراق نهائيا ولن تعود اليه ثانية خشية الوقوع في مستنقعه مرة اخرى، واذا بقى لديها من قوة عسكرية، فهي لا تقارن بما لدى ايران من المليشيات المسلحة، مثل فيلق بدر وعصائب اهل الحق وجيش المهدي، اضافة الى فيلق القدس، ناهيك عن قناعة الملالي بتبعية الحزب الحاكم والاحزاب الطائفية الاخرى لها بالكامل، وكذلك تبعية المرجعيات الدينية والحوزات والحسينات التي تؤثر، كما يظنون، على قطاعات واسعة من العراقيين، بل ان مجرد فتوى واحدة من المرجع الاعلى علي السيستاني كافية لان يطالب الشعب العراقي بالانضمام الى ايران، او المطالبة بدخول القوات الايرانية لحمايتهم من العدوان الخارجي!!. دعونا نسترسل اكثر، فالملالي، على ما يبدو، قد صدقوا ما اشيع عن وجود نية لدى امريكا تسليم العراق لايران عبر السماح لها بالتمدد اكثر داخل العراق، والتغاظي عن دخول قوات ايرانية تحت ستار المليشيات المسلحة، مقابل تأمين مصالحها الحيوية في العراق والمنطقة، وتامين احتياجاتها النفطية، خاصة وان العديد من السياسيين المغمورين او المهووسين بالتحليلات النظرية قد دعموا مثل هذه المقولات. بل ان البعض الاخر تحدث بما يطرب الملالي، واكدوا على رغبة باراك اوباما وادارته بترك العراق لاهله ليلتفت الى شؤون امريكا الداخلية ويعالج ازمتها المالية عبر تقليص نفقاتها العسكرية. ومن دون ذلك لا يمكنه الفوز بولاية ثانية كمعظم الرؤساء الذين سبقوه. وعلى هذا الاساس الهش وجد ملالي طهران بان الوقت قد حان لابتلاع العراق، وعليهم ان لا يدعو هذه الفرصة التاريخية تفلت من بين ايديهم ويتبدد حلمهم كما تبدد حلم الخميني باحتلال العراق. ترى هل سينجح ملالي طهران في مسعاهم وبالتعاون مع المالكي واحزابها الطائفية ويحققوا حلمهم التاريخي، والذي عجز اسلافهم عن تحقيقه؟ ام انها ستتراجع كما عودتنا عندما تلوح لها امريكا بعصاها الغليظة؟. يقال ان الاحلام شيء وتحقيها شيء اخر، فقد سبق لملالي طهران الدخول في حالات من الوهم والخيال كهذه، وسرعان ما استفاقت على وقع العصا الامريكية. ففي ايلول سبتمرعام 2007 ، وحين سحبت امريكا قواتها من المدن العراقية تجنبا لضربات المقاومة العراقية، اعلن احمدي نجاد بان ايران ستكون القوة الوحيدة القادرة على ملء الفراغ ومنع المقاومة من السيطرة على المدن التي انسحبت القوات الامريكية منها، لكن نجاد تراجع عن تصريحاته جراء الرد الامريكي الصاعق والتهديد المباشر ضد اي بلد يحاول التدخل في العراق. وفعلوها ثانية قبل نهايات العام الماضي، حين اعلن الرئيس الامريكي باراك اوباما عن سحب قواته المحتلة من العراق في نهاية نفس العام، حيث افتعل المالكي معركة مع علاوي وهدد باعتقاله وتقديمه للمحاكمة بتهمة الارهاب والتامر على الوطن، حتى خيل للبعض مشاهدة علاوي قريبا وهو معلقا في ساحة التحرير، لكن علاوي وبدعم امريكي اوقف المالكي عند حده واصدر بيانا مقابلا اشبه بالبيان رقم واحد في الانقلابات العسكرية، توعد فيه "باسم الشعب" الاطاحة بالمالكي وحزبه وانزال القصاص العادل بهم، كونهم ، كما ذكر البيان"خفافيش ظلام خربوا البلاد والعباد وفسحوا المجال لايران بالهيمنة على العراق ومقدراته"، ولم تمض ايام الا وكان المالكي وعلاوي في اجتماع مشترك وعادوا اصدقاء وحبايب وان كان الامر ظاهريا امام الناس. بالمقابل وعلى الجهة الاخرى، فان ايران، رغم كل نفوذها وتوسعها وارتقاء مكانتها الى مرتبة المحتل، فانها لن تكون قادرة على ابتلاع العراق حتى لو سحبت امريكا قواتها وسفارتها وقنصلياتها واي ركيزة من ركائزها الاقتصادية والسياسية، فما بنته ايران في فترة الاحتلال من مرتكزات سياسية واجتماعية واقتصادية وامنية وما يتبعها من ميليشيات مسلحة واحزاب طائفية، لن تصمد امام امريكا وقوتها الضاربة. فالحديث عن السلاح الايراني المتطور والصواريخ البعيدة المدى التي تملكها ستنهزم امام قوة امريكا العسكرية. كما ان مليشيات ايران التابعة لحزب الحكيم والمالكي وجيش المهدي بعدتها وعديدها لا تساوي شيئا امام جيش المرتزقة الذي لم يزل متواجدا حتى الان والذي يبلغ تعداده، حسب التقارير الاستخباراتة، اكثر من سبعين الف، بل لا تساوي قوة وكفاءة مرتزقة شركة بلاك ووتور لوحدها. ناهيك عن الفارق بين مرتزقة المحتل ومرتزقة ايران، حيث الاولي منظمة ومنضبطة ضمن قوانين وتعليمات صارمة وتؤدي عملها لقاء اجور مغرية، في حين يعمل كل طرف من مرتزقة ايران لحسابه الخاص، ناهيك عن الصراعات التي تدور بين هذه الاطراف حول النهب والسلب والهيمنة على هذه المحافظة او تلك، وفي بعض الاحيان تصل الخلافات فيما بينها حد الاقتتال الدامي، كما حدث بين ميليشيات جيش المهدي ومليشيات المالكي. واذا نسى ملالي طهران كل ذلك او تناسوه، نذكرهم ان نفعت الذكرى، بان امريكا لم تأت الي العراق وتتحمل كل هذه الخسائر البشرية والمادية وتفقد هيبتها وسمعتها بين الخليقة، لتسلم العراق الي ايران، او حتى مقابل الحصول علي نفط العراق كله. فاحتلال العراق كان بمثابة الحلقة المركزية في بناء مشروع امبراطورية امريكية كونية تسود العالم حتى نهاية التاريخ. وان التنازل عن العراق، وليس تسليمه الى ايران، يعني نهاية الحلم الامريكي الذي يسعي الي تحقيقه كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي علي حد سواء. وحتى نزيد الملالي من الشعر بيت، بان امريكا لن تترك العراق قبل ان تفقد قدرتها علي الصمود وان تبلغ خسائرها حدا لا يتحمله الشعب الامريكي. وحين تأتي هذه اللحظة، فان الطرف الذي تعقد امريكا الاتفاق معه ووفق شروطه هو المقاومة العراقية وليست ايران. ليس لدينا ادنى شك بان ايران وملاليها سيجدون بان كل ما وسوس لهم شياطينهم ليس سوى اوهام واحلام، وسيصحوا منها حين يجمع السفير الامريكي الاطراف المتنازعة وينهي الخلافات فيما بينهم ويعود الجميع الى داخل الدائرة المرسومة، ومع ذلك سينتظر الملالي والمالكي فرصة اخرى لتكرار محاولة تشكيل الحكومة الاسلامية العتيدة، لكن حالهم سيكون مثل حال الذين ينتظرون عودة جودو الذي لن ياتي ابدا. ومن جهتنا نقول للملالي شكرا لشياطينكم فقد رفعتم عن كاهل المقاومة العراقية الباسلة ثقلا كبيرا، حيث جرى الاعتراف من خلال الاتهمات المتبادلة بان الجرائم التي كانت ترتكب ضد المدنيين الابرياء كان يقوم بها رؤوس العملية السياسية وليست المقاومة العراقية، وبالتالي فانه من الان فصاعدا لن نحتاج، نحن مؤيدوا وانصار المقاومة، الى جهود مضنية لتبرئة ساحتها من الدم العراقي؟. الم يتهم المالكي والقضاء الذي تتباهون بنزاهته بالجرائم التي ارتكبها رموز القائمة العراقية وسميتم مرتكبيها ؟ ثم الم يهدد هؤلاء بملفات جرائم تخص المالكي؟ وعلى هذا المنوال، الم يتهم مقتدة الصدر عصائب اهل الحق التابعة لايران بتلطخ اياديهم بدم الناس الابرياء وردت العصائب باتهامات مشابهة؟ ترى هل هناك خدمة يقدمها لنا العدو اكثر من هذه الخدمة؟ نعم ستنسحب امريكا من العراق نهائيا ولكن بفعل المقاومة وليس طواعية، وبالتالي فان من يهزم امريكا قادر على هزيمة ايران اذا اصرت على ابتلاع العراق. فالعراق عبر تاريخه الطويل كان مقبرة للغزاةاليس كذلك؟