ذهبت أدراج الرياح كل حجابات الامة العربية، وتحطمت كل نقاط الرصد المتقدم ضد الاعداء التي بنتها سواعد الابناء منذ الفتح العربي للعراق، حينما تعرض للغزو والاحتلال في العام 2003. كانت حسابات صانع القرار في السعودية وبقية دول الخليج ومصر والاردن خاطئة تماما، لأنها بنيت على العواطف والثارات الشخصية والتنافس على الزعامات ونيل رضى القوى الدولية، والطمع الاقتصادي الآتي من المساهمة في عملية أغتيال هذا البلد. لم يدر في خلد القيادة السعودية أبدا أن خريطة أيران السياسية ومصالحها الأمنية، سوف تنتفخ بعد أبتلاع العراق فتتماس مع الحدود الشرقية للمملكة، ويبدأ صانع القرار الايراني يتلاعب بالنسيج الوطني السعودي. ولم يفقه صانع القرار السياسي في بقية بلدان الخليج العربي، بأن شبكات التجسس الايرانية ستعيث في أقطارهم فسادا، بعد أن يتوقف سيل المعلومات التي كان العراق يزودهم بها من خلال الحرب الشرسة التي كانت تدور بين ألاجهزة الاستخباراتية العراقية وألايرانية. كان الرهان الوحيد للجميع على الحليف الامريكي، الذي يبقي العروش قائمة أن رضي ويزيلها أن غضب. كانوا يُهرولون حاملين حقائب الدولارات كي يستأجروا موقف هذه الدولة أو تلك كي يحشدوا جهدها ضد العراق، ويشتروا هذا الكاتب أو ذاك السياسي كي يؤسسوا معارضة تستلم السلطة فوق الركام. كانت المصالح العليا للامة مغيّبة لديهم، لذلك نظروا الى العراق على أنه خَطّاءٌ كبير ولم ينظروا الى الخطأ في الكويت على أنه حالة أستثنائية شاركوا هم في صنعها أيضا، كما لم يوازنوا بين منافعه وأخطائه، وأستمرار ثقله الموازن لثقل الآخرين وبين أختفاء دوره، وأمتنعوا عن تقديم أي بادرة حسن نية تعجّل من تصحيح الخطأ سواء من قبل العراق السلطة أو من قبلهم كسلطات، بينما مدّوا أيديهم الى الغرباء الذين أهدروا دماء شعبنا على مدى عقود من الزمن سواء أيران أو أسرائيل. لقد أقتصر نظرهم الى العراق على أنه سلطة فقط وليس دولة، حتى أثبتت الايام ضحالة التفكير السياسي الاستشرافي لديهم، وجهلهم بالتحولات السياسية المرتبطة حتما بتغيرات المصالح وتبدل خرائط التحالفات السياسية الدولية والاقليمية تبعا للاستقطابات المتشكلة على المسرح السياسي. وقد أكتشفوا بعد فوات الاوان بأن الحليف الدولي كانت أول قراراته بعد الغزو هو عدم السماح لهم بأن يتحدثوا بأسم عرب العراق، وأن لايكون لهم أي مشروع سياسي على أرضه، وأن لايحاولوا حتى مد يد العون لأهله وأيصال المساعدات المادية والمعنوية لمن في الداخل، بالرغم من أن الوضع فيه وصل الى حد الوصف بأنه بلد منكوب، ومع ذلك التزمت القيادة السعودية التزاما صارما بالتعليمات الامريكية، وحجزت تبرعات شعبية من مواطنين سعوديين هزتهم الفاجعة التي المت بأهلهم في العراق، وحاربت كل الاصوات الدينية التي نادت بالجهاد فيه، وقدمت الى المحاكم كل من ثبت قيامه بذلك. أما المعارضة العراقية التي جمعها المال الخليجي من شوارع لندن وغيرها من العواصم الاوربية، فقد اكتشفوا أنها كانت معارضة للعراق الدولة والوجود، وليست معارضة سياسية لنظام كان يحكم، وكان ولاؤها محسوما لمن يريد الشر بهم. فعلام اليوم ترتفع الاصوات الخليجية تنشج بالبكاء على العراق الدولة ؟ ولماذا الآن أكتشفوا بأنهم أصبحوا منكشفين من أي غطاء أستراتيجي، أمام القوة الايرانية العدوانية ؟ الم يتحدث وزير الخارجية السعودي منذ فترة طويلة عن أن الامريكان قدموا العراق على طبق من ذهب الى أيران ؟ أذن ما الذي فعلته القيادة السعودية تجاه الامن القومي العربي في ظل هذا الكشف الخطير منذ أن صرح وزير خارجيتها بذلك وحتى اليوم؟ والجواب على ذلك نقول لاشيء لأن الدليل لازال موجودا في أرض العراق، جرح نازف منذ تسع سنوات وغياب خليجي - عربي كامل عن الساحة، بينما تحركت السعودية ودول الخليج في ساحات عربية أخرى لرأب الصدع، على الرغم من أن تلك الساحات لم تكن بأهمية العراق وتأثيراته عليهم وعلى عموم الامة، وسبب ذلك لأن الامريكان طلبوا منهم التحرك. أذن عندما يبقى الجهد السياسي والاقتصادي والدبلوماسي والأمني الخليجي مجرد بضاعة لخدمة متطلبات السياسة الامريكية والغربية، يتحرك عندما يطلبون ويمتنع عندما يمنعون، فأن عودة أستقرار المعادلة الامنية الاقليمية التي دعى الامير تركي الفيصل اليها في مؤتمر الأمن الوطني والاقليمي لدول الخليج العربية في المنامة مؤخرا ستبقى حلما لايمكن تحقيقه، ومجرد أمنيات لدول قاصرة عن الفعل السياسي. أن العلاقات الدولية وجدت كي تُستثمَر لصالح طرفين أو أكثر، والعلاقات مع أمريكا مقبولة ومطلوبة بالنسبة لنا نحن العرب، لكن عندما تصبح الولايات المتحدة الامريكية في أول قائمة مهددات الأمن القومي العربي كما صرح الفريق ضاحي الخلفان مدير شرطة دبي في المؤتمر المذكور، فأن من المنطقي جدا ومن أبجديات العلاقات الدولية أن تتحصن الامة ضد هذا المُهدد، وأن يسحب قادتها كل أوراق الدعم والتحشيد للسياسة الامريكية، وأن يتم التعامل معها بندية تمليها مصالح الامة الآنية والمستقبلية. لكن هذا الموقف يحتاج الى قرار مستقل مستند الى أرادة وطنية فاعلة لصانع القرار. فهل هذا العامل الحاسم هو متوفر اليوم في المنظومة السياسية العربية عامة والخليجية خاصة؟ في ضوء تطورات الموقف العراقي والتهديدات الايرانية والتركية لوحدته المجتمعية والجغرافية، وفي ضوء الحالة الفلسطينية أيضا، يمكننا القول بان الواقع أثبت بالمطلق بأن منظومة القيادة السياسية العربية، تفتقر تماما الى الارادة السياسية المستقلة في صنع القرار. فهم يقولون بأن العراق عامل فاعل في المعادلة الأمنية الاقليمية كي تستقر وتتوازن مع أسرائيل وأيران، وهذا هو الواقع الفعلي لدور هذا البلد، لكنهم صمتوا وأخذوا دور المتفرج على السياسة الامريكية، التي سمحت لميليشات ومخابرات النظام الايراني بالتغلغل فيه من شماله حتى جنوبه، ومن شرقه حتى غربه, وباتت أيران صاحبة قرار سيادي في أقتصاده وأمنه وسياسته وحتى قراره الديني، فهل يتم التعامل مع تهديدات الأمن القومي بهذه الطريقة الجوفاء؟ كما تم التعامل مع القضية الليبية بحماسة منقطعة النظير، وتبارت الدول العربية والخليجية في تبيان مستوى مشاركتهم لحلف الناتو، في تلك القضية من طائرات وأموال وجنود، بينما كانوا يصطفون في الغالب الى جانب الجلاد الصهيوني ضد الضحية في فلسطين، مما يؤشر بشكل كامل الوضوح الى مستوى ذليل من التبعية. لقد توالت التصريحات الايرانية والتركية في الفترة الاخيرة من قبل المسؤولين في كل المستويات. كلٌ يقول لديّ في العراق أتباع وأقارب وأهل يجب عدم المساس بهم، ويجب أن تكون لهم حصة في السياسة والاقتصاد والفدرالية، وأن العراق تحت سيطرتهم وحكومته من صنعهم، لكننا لم نسمع من مسؤول عربي من صناع القرار يجرؤ أن يقول مثل الذي قيل، على الرغم من أن شعب العراق عربي حتى العظم وقومي حتى النخاع، ومن حقنا عليهم وواجبهم أن يقولوا ويفعلوا لنا أكثر مما قاله الاتراك والايرانيون، الذين يستخدمون صلات الوصل الاسلامية التي تربطنا بهم، لتحقيق مصالح سياسية تخدم توجهاتهم القومية على حسابنا. أننا ليس لنا ألا أن نستبشر خيرا ونحن نستمع الى تصريحات وزير الخارجية السعودي مؤخرا، الذي أكد على رفض دور شاهد الزور في سياسة بلده تجاه القضية السورية، متمنين عليه أيضا ان يرفض دور المتفرج الغريب على الذي يحدث في العراق، وأن يضعهم الدم العراقي كذلك في موضع الاختبار الضميري لأنه لايختلف عن الدم السوري. دم عربي أيضا لاتركي ولا أيراني. وأذا كان كما يقول ( ليس هنالك اقسى من تأنيب الضمير، خاصة لمن يحرص على جديته ومصداقيته أزاء شعب شقيق ) فأننا نقول أن شعب العراق مازال يتطلع الى دور يؤكد جديتكم ومصداقيتكم مع رابطة الاخوة التي تجمعكم به، وأن لايصمت صوتكم ويتوقف فعلكم وينسى ضميركم الم التأنيب، أمام النموذج الذي صنع للعراق لأنه صناعة حليفكم الامريكي الذي حشدتم جهودكم معه. فالتحالفات السياسية الدولية يجب أن تقوم على الندية، وتحقيق المصالح المشتركة، وبخلاف ذلك تصبح تبعية وتخادم لا أحد يرضاها لشقيق. أن الرجوع عن الخطأ فضيلة أصحاب النفوس الكبيرة، والخطيئة التي حصلت في العراق أكبر، وأن أهلكم في العراق ليسوا بحاجة الى بكائيات على الاطلال، بل الى فعل يرتقي الى حجم المأساة، عندها يحكم التاريخ على الاصوات المرتفعة الآن أن كانت صادقة، أو مجرد هراء سياسي . صحيفة القدس العربي اللندنية