في أول حديث له بعد أستنفاده كل وسائل الطعن في نتيجة الانتخابات البرلمانية الاخيرة في العراق، وبعد صدور القرار السياسي وليس القانوني من المحكمة الاتحادية العليا الذي ضمن له الكتلة الاكبر, وقف المالكي خطيبا في إجتماع حلفه الطائفي، محددا ملامح المرحلة السياسية المقبلة في العراق. كان الرجل واضحا في أعلان فهمه لنتيجة الانتخابات التي أفرزت تقدما للقائمة العراقية على قائمته دولة القانون حينما قال (أنها ليست الضربة الاخيرة التي نضرب فيها خيوط المؤامرة التي كادت أن تنجح). أي أنه عقد العزم على أن يبقي منصب الوزير الاول حكرا عليه، ليس بمواصفاته المهنية الفريدة التي قد يتصورها هو لنفسه، بل بمواصفاته الطائفية والحزبية. فهو ينظر الى المرحلة الراهنة على أنها مرحلة بناء جديد للهياكل والاطر السياسية في العراق وفق مايؤمن به هو ووفق مايدعو اليه حزبه، ولأن أيمانه ينصّبُ على فكرة الدكتاتورية الطائفية، ولكي يضمن عدم الشروع مجددا في البناء السياسي على نفس الاطار الوطني الذي شيدت فيه الدولة العراقية منذ التأسيس، فقد بات ينظر الى كل نتيجة سياسية خلاف ما يؤمن به على أنها مؤامرة يجب التصدي لها، حتى وأن كان هذه الاتجاه هو ناتج الصندوق الانتخابي الذي يتبجح بالإيمان به. بل أنه ينظر الى العملية الانتخابية على أنها وسيلة سياسية يجب تطويع الياتها ونتائجها وفق نظرته الخاصة في حكم البلد، التي تقوم على أن الحكم هو أستحقاق شرعي (للطائفة المظلومة)، وأن المرحلة الحالية واللاحقة يجب ان يجري فيها تكريس ثقافي وفكري وأعلامي وأقتصادي وسياسي وعسكري لتعزيز هذا الحق، بما يجعل منها أطرا قانونية جاهزة يجب أن يسير عليها المجتمع أولا، ثم تلتزم بها كل حركة سياسية أو تيار أو حزب يعمل في الساحة العراقية. وبذلك تصبح أحزاب الاسلام السياسي الشيعي هي القائد الفعلي للمجتمع وهو قدرها الذي أفضى به الشرع لها، بينما يبقى الآخرون مجرد مشاركين في السلطة بغض النظر عن ماتقوله الاليات الديمقراطية في الانتخاب. لذلك ذهب الى التأكيد على ذلك حينما قال في نفس الحديث (جلسة الغد البرلمانية ستكون جلسة لتأسيس الدولة العراقية وليس تشكيل الحكومة فقط). أي أن أعادة توليه المنصب الاول في السلطة التنفيذية، سيكون عُرفا وإستحقاقا يجب أن يقبل به الجميع، وأن مواصفات الوزير الاول في كل الحكومات العراقية اللاحقة ستصبح معروفة منذ الآن ولاجدال فيها بعد اليوم. وبغية سد الطريق على كل من تسوّل له نفسه مخالفة هذا النهج الذي أرساه المالكي مع حلفائه، فقد شرع بوضع يده على كل مصادر القرار في الدولة العراقية، كي تكون حركة الدولة والمجتمع متناسقة تماما مع قانون المظلومية الذي يرتب للطائفة المظلومة إحتكار السلطة التنفيذية الى مالانهاية، والتأثير الاكبر في السلطة التشريعية. لذلك أنقلب على موضوع مجلس السياسات الاستراتيجية الذي وافق عليه في أتفاق أربيل، لانه أحس بان هذه المؤسسة سوف تقتطع جزءا من سلطانه، وربما تؤسس لسياسة أخرى لايريدها هو، ومن الأفضل وأدها قبل أن ترى النور وتصبح حقيقة يصعب قتلها فيما بعد. ولأن القرار الامني والعسكري لازال فاعلا وفق الظروف الموضوعية والذاتية التي يمر بها العراق، فقد وضع يده على كل المؤسسات المختصة بهذا الشأن، فبات وزيرا للداخلية والامن الوطني والمخابرات وعدد أخر من الاجهزة الامنية التي ترتبط مباشرة به، حتى أشترط بمن ترشحه القائمة العراقية لمنصب وزير الدفاع أن يكون متناغما مع نظريته في الحكم، وأن لايدين بالولاء لامن بعيد ولامن قريب الى الجهة السياسية التي ترشحه، بما يؤكد أنه يريده عينا له على القائمة العراقية ينقل اليه مايدور فيها قبل أن يدير وزارة الدفاع. وقد أنطلق في هذا الفعل من حقيقة أن من يمسك بالملف الأمني بجميع تفاصيله في العراق أنما هو يمسك بالسلطة السياسية كاملة. فالحقل الأمني هو المعول الذي يتم فيه تهديد الاخرين وجمع أوراق الضغط السياسي عليهم. كما أنه هو من يجمع المؤيدين والاتباع والانصار، لانه القطاع الوحيد الذي مازال يوفر فرص عمل برواتب جيدة، مما يشكل أملا لقطاع كبير من العاطلين عن العمل من الشباب، وبالتالي فأن من ينتمي اليه سيكون محسوم الولاء الى سلطة المالكي وحزبه. أمام كل هذا الحشد المادي والمعنوي لمصادر القوة بيد شخص واحد وجهة سياسية واحدة، لازال الكثير من الخصوم السياسيين وقطاعات شعبية واسعة تنظر اليها على أنها استولت بقوة السطة على الحكم، وأثبتت أنها غير مؤمنة أطلاقا بما يسمى العملية الديمقراطية من خلال أنقلابها على نتيجة التصويت، فأن القائمة العراقية وجماهيرها باتت تعيش تحت وطـأة الشعور بالغبن والظلم والاقصاء والتهميش، وما لحق ذلك من أعتقالات وأجتثاث وعزل، مما خلق حالة من اليأس بتحقيق الشعارات التي تم طرحها كبرنامج سياسي للقائمة، بل وشعور عدد من أعضاء القائمة بعبثية الاستمرار في العملية السياسية أمام ضغط الشارع الذي ساهم في التصويت لهم، والذي كان في أنتظار تحقيق مطاليبه، فانعكس ذلك بصورة واضحة على تركيبتها وبنائها الداخلي، فكان فرصة سانحة للمالكي وحلفائه كي يكرروا نفس السيناريو الذي اتبعوه في تفكيك جبهة التوافق. لذلك أنسلخ عدد من أعضائها وقدموا الولاء للمالكي، وذهبت أطراف أخرى لتشكيل قوائم أخرى مستقلة عن العراقية، بينما أتجه طرف ثالث لنشر مالديه من غسيل قذر، كان قد حصل عليه عندما كان عضوا فاعلا في هذه القائمة، وهو اليوم يريد بيعه الى خصوم القائمة أملا في أن يحصل على منصب. لكن ذلك لايعني بأي حال من الاحوال أن القائمة العراقية بريئة من هذا الانسداد السياسي الحاصل اليوم في العراق، بل هي شريك فعلي في صنعه والاصرار على استمراره، لانها أوهمت الناخبين بشعارات ومناهج عمل هي خانتها وتخلت عنها، من خلال أستمرارها في شراكة سياسية عقيمة لم تحقق شيئا للناخب، وهي تعلم جيدا بان وجودها في السلطة لم يكن إلا جزءا من ديكور رتبه المالكي وحلفائه، كي يضفوا قبولا إقليميا ودوليا على تجربتهم العقيمة. أذن لماذا يبقى السياسي في المكان الذي لايحقق له برنامجه السياسي؟ ولماذا يبقى مشاركا في لعبة تدر على ناخبيه المأسي والخيبات؟. أن الدعوات التي أنطلقت لجعل بعض المحافظات أقاليم مستقلة أداريا وأقتصاديا، والتي أيدتها القائمة العراقية ودافعت عنها ليس حُبا برفع الضيم عن أهلها بل طمعا بالمناصب التي ستجلبها لها، دفعت قوى المالكي وحلفاءه الى التأكيد على أن الحاكمية لهم وحدهم على كل شبر من أرض العراق، وأن كل الوجوه السياسية الاخرى من خارج حلفهم هم مجرد أجراء وليسوا شركاء في الوطن، وبالتالي ليس من حقهم السعي في هذا السبيل الذي يخرج بعض المحافظات من سلطانهم. لذلك تحركت قوى حرب الضرورة للتشهير بالخصوم السياسيين الاخرين، كي ترتفع في هذا الجانب رايات تعزز فعل الحكومة وتطالب بالثأر، وفي الجانب الاخر رايات تستنكر فعل الحكومة وتطالب بقيام الاقاليم. أن أوان حرب الضرورة قد حان في العراق، وأن لم يجر نزع فتيلها فهي قائمة لامحالة . صحيفة القدس العربي اللندنية