هو أبا عبدالله الحسين وليس المالكي والحكيم والجلبي أوعلاوي والهاشمي والنجيفي، ومع ذلك كان أهله يبيتون بلا طعام وبلا فراش وثير، بينما كان يستطيع أن يومي برأسه الشريف الى زعيم الدولة الاموية في الشام موافقا على منهجه في الحكم، فتأتي اليه النوق محملة بالاموال والغيد الحسان والحُجّاب والحرس والعبيد وأفرشة الحرير، وقد يُستحدث له منصب يجني منه الكثير، وديوان يأمه خاصة الحكم من الوجهاء والزعامات الاجتماعية. كان قادرا على دخول معترك المساومات مع يزيد فيترك الظلم سيدا بين العباد ,ويتدثر بالثراء والمجد التليد القادم اليه من أشرف أم وأشجع وأتقى أب. لكنه كان يعرف جيدا بأن شراء يوم أو يومين من يزيد كي يبقى حيا في هذه الدنيا ثمنه عسير. كان عليه أن يصبح تابعا للظلم ومن جوقة وعاظ السلاطين المزينيين دروب الشر للحاكمين، والملبسين الحق بالباطل والباطل بالحق. لكنه هو الحسين الثائر وأمام الامة، وما له من تاريخ مادي ومعنوي كان هو حصنه الحصين، وملاذه الوحيد في ساعات العُسرة، فأختار طائعا طريق الثوار الذائدين عن حياض الامة، المؤمنين بأن الدماء أرخص كثيرا من سعر الضمير المباع للسلاطين. أنها معادلة كبرى تلك التي أمن بها الحسين، وهي أن الموازنة بين الحياة والموت خلاصتها صناعة تاريخ، والتاريخ موقف بطولي شريف في سبيل المجموع وليس الفرد، وهو يتطلب نفوسا عالية المقام مترفعة عن حياة الذل والهوان، وهكذا فعل الرجل فخلد الى أبد الابدين. ولانه ظاهرة تاريخية فريدة في الصمود ونكران الذات في الذود عن الحق الجمعي للأمة، وحالة موت أيجابي خلقت قيما ومبادئ أعتنقها الكثيرون في نضالهم، فأن الكثير من المتشبهين والمزورين وعراة العقل والقلب والضمير، حاولوا إستغلال ذلك التراث الذي صنعه بالتضحية، كي يخدم أهدافهم الشخصية ونزواتهم اللا أنسانية فأدعوا زورا أنهم أتباعه، ولبسوا عمامته الشريفة، وحملوا سيفه الصادح بالحق، وأستعاروا صوته الهاتف أما من ناصر ينصرني، لكنهم نسوا الايمان بالمبادئ التي ناضل وأستشهد من أجلها، والعمل بهدي القيم التي زرعها في نفسه أولا قبل أن يطالب الاخرين بأتباعها، فبان تزويرهم حينما تحولت العمائم التي حاولوا تقليده بها الى وسيلة لكسب المال والاثراء الفاحش، على حساب المساكين والفقراء والمحرومين من أهلهم وأبناء شعبهم، وأستحال السيف الذي أدعوا أنه سيفه الى نصل ثأر وأنتقام بأيديهم يجزون به رقاب الابرياء، وكل صوت ينطلق معارضا سياساتهم، وبات صوته الهازج (أما من ناصر ينصرني) أهزوجة يجمعون بها الناس على سياساتهم الطائفية ومصالحهم الضيقة. عندها أكتشف الشعب بأن هؤلاء ما هم سوى أتباع عبيدالله بن زياد والي الكوفة، وليس الحسين بن علي الذي جاء حاملا روحه على راحة يده في سبيلهم. فها هو ظلمهم ينتشر كالطاعون في أرجاء العراق من أقصاه الى أقصاه، وها هي دماء الأبرياء تسيل في كل حارات وشوارع الوطن دون أن يكون هنالك أي موقف شريف من أحدهم تجاه أستحقاقاتها، كما تنتهك الحرمات في حفلات سمر جماعية في السجون والمعتقلات السرية والعلنية من قبل القائمين عليها، دون رادع من ضمير أو وازع من خلق، وينتشر المخبرون السريون في كل أنحاء البلاد لصناعة التهم الجاهزة والمتهمون الابرياء، وتتمدد المليشيات المسلحة كألافاعي في كل مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية في لعبة الرعب والرعب المضاد. فهل بقي شيء لم يتحقق في العراق من تراث عبيدالله بن زياد والي يزيد في الكوفة ؟ وهل تحقق شيء من رسالة الحسين بن علي التي سنها في خروجه لمحاربة الظلم وتحقيق العدل ؟ لقد أختار ساسة العراق الجديد الطريق الاسهل وهو الاقتداء بعبيدالله بن زياد، لأنه لايكلفهم كثيرا من الجهد، فهُم طلاب دنيا ومناصب وثراء وبائعو كلام معسول، وتبجح بالتجربة الديمقراطية النموذج التي باتت مضرب الامثال في الفساد والدمار، وهاجسا يقض مضاجع الغزاة في أن لا تتكرر مثلها تجربة أخرى في العالم. بل أصبحت مصطلحا سياسيا دخل القاموس السياسي الحديث، للتدليل على حالة الدولة الفاشلة الفاقدة للهوية والمرجعية. وقد كان هذا الخيار ليس هو الوحيد أمامهم، بل لأن النفوس الضعيفة الارادة والعزيمة غير مؤهلة لتسلق المعالي، وغير قادرة على إذابة الذات في خدمة المجموع. فتغليب المصالح الجمعية على المصالح الذاتية، تحتاج الى مجهادة ومكابدة للغرائز والشهوات المادية والمعنوية. وهذا مافعله الحسين بن علي في ثورته التاريخية، فكان ضميره ضمير الأمة جمعاء، وتقدسيه للمجموع وليس الذات الفردية هو أساس خلوده، حتى سرى فعله ثقافة سرمدية بين أفراد الامة. بينما بانت الثقافة التي نشروها في العراق واضحة للعيان ولاتحتاج الى أيضاح. فالتشظي الجغرافي وصل حدودا غير معقولة في الانانية المفرطة، ومحاولة الاستئثار بالثروات للجزء على حساب الكل باتت تطل بوجهها البشع بين الكل، حتى وصلت الى حدود الفعل الوحشي والبعيد عن الانسانية، كما أصبحت الهوية الطائفية والعرقية والمذهبية هي الهوية الجديدة في الوطن، وأنتقل الاجتهاد والاختلاف الفكري والسياسي من خدمة الوطن الى وسيلة فعالة لإغتيال الوطن. وتحول تقديس المواطنة الى تقديس للمنصب وصل حد القتال الفعلي بين الاطراف السياسية من أجل الوصول اليه. وتراجعت الاستفادة من العلاقات الاقليمية والدولية من خانة تطوير الوطن والنهوض به، الى تحقيق مصالح أجنبية على حساب المصالح الوطنية العليا، وكثر المتسولون والجياع والمرضى والعاطلون عن العمل والاميون، حتى وصلت نسبهم حدودا عليا في بلد تزداد وارداته النفطية بشكل مضطرد. فأين السياسيين المدعين السير على خطى سيد الشهداء الحسين، الباكين ذكراه كل عام دون النظر الى مبادئه الحقة والعمل في ضوئها ؟ فلقد أبتعدوا عن العمل السياسي المهني الخلاق الذي يحصن الاوطان وينهض بها، كما أبتعدوا عن كل مبدأ ومنطق أخلاقي يفرض عليهم الالتزام بحقوق المواطن، وكان قانونهم الوحيد هم قانون الثراء. وعندما تكون هنالك هوة بين السياسة والاخلاق وطلاق بين القول والعمل، تبرز وبوضوح الافعال العدوانية ضد المجتمع من قبل السياسي كما يزداد التفاوت الاجتماعي، ويتم تجاهل حقوق الانسان، وهذه كلها وقائع ثابتة في المشهد السياسي العراقي طوال تسع سنوات. يقينا أن كل هذه الوقائع والمشاهد المأساوية قد أقضت جسده الشريف في قبره، وهو الذي خرج من أجل سيادة الحق وأعلاء رايته، وكان مؤمنا أشد الايمان بأن عطر دمه سيكون هاديا لكل السائرين على دربه، وقنديل ضوء يشع ليبدد الظلمة من هذا الكون، وطاقة جديدة ليس لهزيمة عبيدالله بن زياد فحسب، بل لإحياء قيم ومبادئ عليا يجب أن تسود بين الناس. لكن ساسة العراق الجديد فضلوا تحقيق مصالح أقليمية ودولية على حساب وطنهم، حتى باتت سيفا مسلطا على رقاب العراقيين . صحيفة القدس العربي اللندنية