أما الوردي، فهو د. علي الوردي، الأكاديمي ومؤسس علم الاجتماع العربي الحديث، وهو من واصلَ الكتابة والتأليف لما يزيد على نصف قرن، واقترنت أطروحاته الفكرية، جميع أطروحاته، بإثارات ساخنة، سواءً صدرت عن مؤيدين لما جاء فيها أو رافضين. وكانت مؤلفات الوردي، على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين، الأكثرَ توزيعاً في العراق والأكثر إثارة للجدل، وكثيراً ما خرج الجدل بشأنها من إطاره الثقافي لينفتح على المحيط الاجتماعي، فتعرض الكاتب للثلب، ووصل الأمر إلى المقاطعة وأنواع التهديد، وإنّ كتباً مثل "وعاظ السلاطين" و"أسطورة الأدب الرفيع" خلقت ما يشبه الانشقاق في الوسط الثقافي، وامتد ذلك إلى الوسط الاجتماعي. إلاّ أن الرجل، وهذا ما يتفق عليه محبّوه وشانئوه، ظلّ أميناً على مواقفه الفكرية التي اصطدمت بثوابت اجتماعية وفكرية، فواجَه عواصف الرفض بالحوار والسخرية الراقية، ومما يعرفه الوسط الثقافي - خصوصا في العراق - إنّ غيرَ كتابٍ من كتبه استمر الحوار والجدل بشأنها وحول ما ورد فيها، إلى سنوات، وماتزال بعض أطروحاته الفكرية، مثارَ جدل إلى يومنا هذا، وما تزال كتبه التي صدرت في خمسينات القرن الماضي، مطلوبة من القراء والباحثين وتسجل أرقاماً في التوزيع تتجاوز أرقام كثير من الإصدارات الجديدة. منذ ثمانينات القرن الماضي أبدى صحفي عراقي نشيط ومثقف متفتح هو سلام الشمّاع، اهتماماً لافتاً بالوردي وتابعه في كتاباته ومحاضراته ومجالسه، ومن ثم رافقه في حياته اليومية، رغم فارق السن بينهما، وكان الوردي حاضراً حيث يعمل الشمّاع، في مجلة "ألف باء" وصحيفة "الجمهورية"، وفي المنابر العربية التي يراسلها أو يكتب لها. وبعد وفاة الوردي في 13 تموز 1995 عن ثلاثة وثمانين عاماً (هو من مواليد العام 1913)، كان الشماع وفياً للوردي حافظاً لتراثه ناشراً لسيرته، وكأن الوردي أدرك معدن الرجل حين خصه بتلك العلاقة الفريدة وائتمنه على كثير من أوراقه وأطلعه على مثلها من خصوصياته، ففي الذكرى الأولى لرحيل الوردي أصدر الشمّاع كتابه الأول عنه وكان بعنوان "د.علي الوردي.. من وحي الثمانين"، وصدرت الطبعة الأولى منه في بغداد، ثم صدرت الطبعة الثانية في بيروت. وأخيراً صدرت الطبعة الثالثة منه في دمشق، وقد أهداني المؤلف نسخة منها، وهي مزودة بوثائق ومعلومات جديدة، كما ضمت بعض ما كُتب عن الكتاب، في طبعتيه الأولى والثانية، "فالوردي يبقى مثيراً للجدل والاهتمام، وهذه ميزة تفرّد بها". ويعلن الشماع في مقدمة الطبعة الثالثة عن احتفاظه بوثائق تخص الوردي وبشيء من كتاباته وما كُتب عنه "تركها مخبأة بعد أن غادر بغداد وأقام في البحرين، تحت ضغط وتهديدات الميليشيات التي انتشرت في ظل الاحتلال، انتشار الجراد، تأكل كل ما زرعه المفكرون والمثقفون والبناة". وتمّ إحراق شيء مما خبأه من أوراق خشية مساءلة الميليشيات للأهل والأبناء والأقارب. وضمت هذه الطبعة كسابقتها، مقدمة وافية كتبها د.عبد الأمير الورد (رحمه الله)، فيها من المعلومات السيرية ما أغنى الكتاب، لكن فيها من الشطط ما يذكّرنا بشخصية اللغوي والفنان الورد، وقد قوَّم الشمّاع بعض هذا الشطط بفطنة، من خلال هوامش موضوعية، وتجاوز بعضه. كما أهداني المؤلف حين زارني في عمّان كتاباً آخر له بعنوان "د.علي الوردي.. مجالسه ومعاركه الفكرية"، ودارت بيننا أحاديث عن الوردي، عالماً وإنساناً. وهذا الكتاب، بالغُ الأهمية، ذلك أنه يتابع الوردي في يومياته ومجالسه، خصوصاً تلك المجالس التي عرفتها الحياة الثقافية في بغداد وارتبطت بشخصيات عامة وأسر عريقة. وإذ تجري حوارات في هذه المجالس، منها ما يدخل في اللغو والادعاء والمجاملة، ومنها ما هو عميق وثقافي، وكان الشمّاع بحدود اطلاعي ممن تابعوا هذه المجالس وحرصوا على حضورها وتقديمها في متابعات صحفية جادة. ولأن الوردي من الذين واصلوا حضور عدد من هذه المجالس، وكان الأقل مجاملة في ما يقول والأكثر صراحة في الرأي، فقد أفاد الشمّاع من علاقته بالوردي لتقديم كثير من حواراته الجريئة إلى القارئ من خلال متابعاته الصحفية، وبهذا احتفظ بالكثير مما كان يقال في هذه المجالس، وقد كان ينتهي بانتهاء وقت المجلس وانفضاض الحاضرين. وقد أنجز الشمّاع كتاباً جديداً بالاشتراك مع د.حسين سرمك بعنوان "تحليل شخصية الوردي" صدر مؤخراً في دمشق، كما انتهيا معاً من كتابة مسلسل تلفزيوني بثلاثين حلقة عن حياة الوردي، كما أشار في مقدمة كتابه "من وحي الثمانين" إلى أنه يخطط "لنشر تراث الوردي غير المنشور وجمع المشتت منه في الصحف والمجلات، والتعليق عليه"، كما حدثني في لقائنا الأخير بعمّان، عن عزمه على إنجاز موسوعة تضم ما كُتب عن الوردي وما استُقبلت به كتاباته من ردود وما أثارت من حوارات. ومن يعرف حجم الردود التي ووجهت بها أطروحات الوردي، منذ كتابه الأول "شخصية الفرد العراقي" في العام 1951، حتى آخر نص كتبه أو محاضرة ألقاها أو حوار أجري معه، سينتظر موسوعة تكشف التوجهات الثقافية على امتداد نصف قرن، وما اقترن بها من ردود أفعال تمتد من التحريم إلى التهديد بالقتل! وهذا يتطلب جهداً منظماً، تقوم به مؤسسة أكاديمية، ولو كان الشمّاع قريباً من مكتبته ومراجعه، لتيسر له إنجاز هذا المشروع. وإذ اضطرته الظروف، مثل آلاف المثقفين العراقيين، إلى أن يكون بعيداً عن مراجعه، فهل يكفي الوفاء، وقد كان وفياً حقّاً لأستاذه وصديقه د.علي الوردي، لإنجاز مشروع معرفي كبير، كالذي حدثني عنه، قائلاً: إنه يعد العدة لإنجازه؟