نحن العرب, ولأسباب ناتجة عن قحط وجوع وجفاف سياسي وإقتصادي وثقافي, بحاجة الى أكثر من ثورة في البلد الواحد, بل وثورة في الثورة. وقد لا يكفينا, كما تدلّل الأحداث الجارية في مصر هذا الأيام, أن نُسقط نظاما ونقوم بنتظيف كلّ محلّفاته مطلقين العنان لكل أنواع الغرائز والمشاعر. فالأمر بالنسبة لنا كشعوب وأوطان ونخب سياسية أصعب بكثير ممّا يتصوّر أو يتمنى المتفائلون. ولذا فان ربيعنا العربي, الذي بدأت نسائمه المنعشة من تونس الخضراء, تجاوز فترته الزمنية حتى بالمعنى المجازي, وأخذت الغيوم السوداء والرياح العاصفة المليئة بالغبار تحيط به من كل جانب ومكان. ثمة أسباب عديدة لهذا التعثّر والفوضى وفقدان زمام المبادرة الذي تعيشه الثورات العربية في هذا البلد أو ذاك, أهمها إن بوصلة الثورة سقطت في أيدي غير أمينة, هي الأخرى منزوعة الارادة ومرتبطة بقوى خارجية لا يهمّمها في نهاية المطاف إن نجحت الثورة أم فشلت. وتأتي على رأس هذه القوى الخارجية دولة العام سام التي أصبحت بقدرة قادر "كوبا الثائرة" في عزّ ومجد ثورتها. فما كان منها, بعد أن أيقنت إن العرب شعوبا وحكاما, أفضل وأسهل من أن يضحك على ذقونهم وعقولهم, فاسمعتهم الكلام العذب والجُمل المنمّقة المعسولة ممّا جعلهم يتمايلون طربا وبهجة مؤمنين بأنّ الاذن تعشق قبل العين أحيانا, بالرغم من أن وجه الأمريكي البشع ليس غريبا عليهم. وفي نشوة نصر لم يكتمل بعد وتغيير لم يحصل الاّ في قمّة هرم الأنظمة, ودون أن تكون هناك بدائل واضحة غير التمنّيات والرغبات المشروعة, وجد الثوار أنفسهم في أكثر من بلد, وجها لوجه أمام حقيقة لم يألفها العالم العربي من قبل وبالشكل الذي نراه يوميا, أي الثورة بلا تخطيط ولا قيادة ولا أهداف واضحة المعالم, غير هدف تغيير النظام وإسقاطه. لكن ثمّة خلط أحيانا غير مقصود وأحيانا مبرّر بين }}اس النظام, باعتباره رمز لسلطة قمعية فاسدة, وبين النظام ككيان وبنيان وهياكل مسساتية معقّدة ومركّبة لها نُظم خاصّة وقواعد وقوى خفية متجذّرة ومندسّة بين طبقات وشرائح وأطياف كلّ مجتمع. ولذا فان الضرورة تقضي بان يحتفظ المرء بكامل قواه العقلية ولا ينجر بشكل أعمى خلف حقيقة ما زالت في تطوير التكوين, مفادها أننا إنتصرنا وإنتهى كلّ شيء, لأن الحاكم الفلاني هرب وآخر قُتل وثالث في قفص الاتهام..ألخ. فما هو أصعب وأعقد في كل ثورة, ليس الخلافات التي تسود الفرقاء أو القادة الجدد ورفاق الطريق, بل أن تحلّ تلك الخلافات والصراعات محل الأهداف الحقيقية للثورة نفسها وتصبح الشغل الشاغل للناس بسبب إنعكاساتها الخطيرة على الجميع. ومن المؤسف حقّا هو أن ما يحصل في مصر, ومثله بشكل ما في اليمن وسوريا, لا يخفي الاّ الخوف والرعب من مصير مجهول في كل جوانبه, ومشؤوم في تفاصيله, على مستقبل الأوطان والشعوب. وليس من المعقول أن نحمّل كل أسباب الفشل والتعثّر وهدر الوقت الثمين من عمرالوطن والشعب على فلول أو بقايا النظام المنهار, وإن كان تأثيرها ما زال مؤثرا وغير قابل للزوال بسهولة. لكن يتوجّب على كل ذي عقل واعٍ وضمير حي ونظرة موضوعية أن يراجع نفسه, خصوصا قادة الأحزاب والنخب السياسية الفاعلة, وأن يتخلّصوا ن ممارسة دور"الضحية الأبدية"التي تُطالب دائما بحقوق ومكاسب وإمتيازات لا يستحقّها غيرهم من البشر. وعندما يتّفق الجميع, رغم أن غبار المعارك والفوضى والاتهامات المتبادلة ما زال يغطي سماوات العرب, على أن الوطن ومصالحه العليا هي خطّ أحمر لا ينبغي أو يُسمح لأحدّ بتجاوزه, عند ذاك فقط تنتصر الثورة باقلّ التكاليف وباسرع الأوقات. ومن الضرورة القصوى التنبيه, لمن يهمّه الأمر طبعا, الى عدم الأفراط في التفاؤل. فاصدقاؤكم الجُدد, أمريكا والغرب على سبيل المثال, كانوا من أشدّ أعدائكم لعشرات السنين . ولولا دعمهم وتأييدهم الغير مشروط وحمايتهم المطلقة للأنظمة القمعية الفاسدة وصمتهم المخزي على جرائمها وإنتهاكاتها لحقوق الشعوب لما كان بكم حاجة حتى الى النزول الى الشوارع. وليس مستبعدا, إستنادا الى معرفة واعية ودراسة معمّقة لتاريخ الدول الاستعمارية, من أن تعيد أمريكا وأوربا تصدير عسلها الديمقراطي المسموم اليكم مستغلّة بذلك ظمأكم الشديد للحرية وتطلّعكم المشروع للعدالة والمساواة. وتذكّروا إن الحر تكفيه الاشارة, وإن المؤمن لا يُلدع من نفس الحجر مرّتين, إن كُنتم مؤمنين حقّا! mkhalaf@alice.it