خرج على الملأ رئيس السلطة التنفيذية في العراق نوري المالكي، داعيا البعثيين بعبارات لاتليق بمن يتصدى الى خدمة عامة، الى أعلان التوبة أمام السلطات المختصة أو مواجهة العقاب، مهددا بأن مالاقاه البعثيون في الفترة الاخيرة من حملة أجتثاث جديدة وأعتقالات وتحقيق، سوف لن تتوقف بل ستستمر وبوتائر متصاعدة. وأذا كانت هذه الحملة التي أنطلقت عشية الانسحاب الامريكي معروفة النوايا والاهداف، ومهمتها الرئيسية هي تصفية الساحة السياسية من كل الوطنيين وليس البعثيين فقط، الذين لم ينخرطوا في المشروع السياسي الامريكي المتمثل بالعملية السياسية، فأن هذه التهديدات كشفت مرة أخرى مستوى الخطاب السياسي الذي تم أعتماده في بناء مايسمى العراق الجديد منذ التاسع من نيسان أبريل في العام 2003 وحتى الآن، والذي كان سببا رئيسيا في كل الخراب والدمار الذي لحق بالبلاد والعباد. فالفشل يبدأ من اللحظة التي يتبنى فيها السياسي المتصدر للسلطة السياسية رؤى فكرية قائمة على أساس الاقصاء والتهميش والاجتثاث، وعدم المقدرة على مغادرة الماضي، عندها ستكون كل الافعال التي يكرسها في عمله اليومي هي عبارة عن محاكاة لما يخالج نفسه من وساوس، وردود أفعال سلبية على وقائع لم تعد موجودة على أرض الواقع. وبذلك فأنه يقود المجتمع الى كارثة التعطيل المتعمد والقسري لشرائح أجتماعية معينة بتهم باطلة ومفتعلة، كما أن هذا الفعل يعطي أشارات واضحة لقطاعات أجتماعية وميليشيات مؤيدة للحاكم في التحرك ضد الآخرين لملاحقتهم أو التعرض القانوني ضدهم. أن حيز العمل السياسي الصحيح للسلطة هو قدرتها على التأثير الجمعي لتنفيذ برنامجها الحياتي، وعندما تمارس أدوار الانتقام من الآخرين فأنها تقلص من حجمها وحدود تاثيرها على المجتمع، بل وتسعى بفعلها هذا الى أن يرتقي الآخرون بفعلهم السياسي ضدها بما يحط من توجهاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبذلك تفقد القدرة على التأثير وصناعة الحدث، وبمرور الوقت تجد نفسها مضطرة للركض في بناء منظومة أمنية تحفظ لها كيانها وتستند عليها في البناء الذي ترنوا اليه، وعندها تحصل الكارثة الكبرى عندما يصبح القرار في كل مجالات الحياة قرارا أمنيا، ويتم عرض جميع كوادر الدولة والمجتمع على الفحص الأمني قبل فحص القدرات والامكانات التكنوقراطية والعلمية. وقد كانت الاحداث الاخيرة في العراق خير دليل على الاتجاه الحكومي بهذا الطريق، عندما شرعت وزارة التعليم العالي بفصل المئات من أساتذة الجامعات بحجة أن عقولهم مفخخة ويسعون الى تفخيخ عقول الطلبة، بينما كان الكثير منهم على قدر كبير من المهنية العلمية، وكان لهم دورا فاعلا في ضمان أستمرار العملية التربوية والمسيرة العلمية في المواقع التي كانوا يشغلونها. كما أن حديث رئيس الوزراء عن المهاجرين العراقيين في سورية وليبيا واليمن ومصر، والتي أجبرتهم الاحداث السياسية في تلك البلدان على العودة الى الوطن، وأتهامه لهم بأنهم عادوا كي يعيدوا التنظيم الحزبي في المحافظات العراقية، يؤكد بما لايقبل الشك أن السلطة ماضية في تقسيم المجتمع وتفتيته، وليس لديها أية رغبة حقيقية في البناء الاجتماعي القائم على المساواة في الحقوق والواجبات، وغير مستعدة أطلاقا لاحتظان قطاعات واسعة من الشعب العراقي، وبذلك فأنها تكرس عدم تحقيق الاجماع والذي يقود الى عدم الاستقرار. لقد باتت السلطة السياسية في العراق أسيرة الامية والتخلف العلمي الذي تعانيه على مستوى كوادرها الحزبية، فاصبحت تعاني من حساسية مفرطة في التعامل مع هذا الموضوع، الذي قادها الى النظر الى كل الكوادر العراقية من خارج أحزاب السلطة على أنهم قادة مستقبليون بدلا عنهم، ومنافسون حقيقيون على المواقع التي يشغلونها في دوائر الدولة، كما أن الانحسار الاجتماعي عن أحزابهم الطائفية، جعلهم ينظرون الى كل التيارات السياسية الاخرى في البلد غير المشتركة في العملية السياسية، على أنهم تهديد شعبي حقيقي لهم ولاستمراية وجودهم. وبذلك كان تعاملهم مع هذين العاملين تعامل قاسيا مبنيا على فكرة الاجتثاث والعزل والاقصاء وقطع الارزاق، دون النظر الى أنهم يسلكون أقصر الطرق الى الهاوية، من خلال التعطيل المتعمد لجهود قطاعات أجتماعية واسعة، لو أتيح لها المجال للخدمة العامة لكانت قد أنقذت البلد مما هو فيه، وبالتالي يكون مردوده أيجابيا على السلطة السياسية الحاكمة. لكن التحجر الطائفي والحزبي الضيق هو الذي يملي أرادته عليهم، ويغيّب عن أذهانهم حقيقة أن المشاركة الشعبية الكاملة هي الوحيدة القادرة على أيجاد حلول ناجعة للمشاكل التي تعانيها المجتمعات. لقد سلطت التصريحات والاجراءات الأخيرة التي قام بها رئيس الوزراء ومناصروه في العملية السياسية، الضوء على الازمة التي يعانيها النظام السياسي في العراق. ففي الوقت الذي لايتوانى الجميع عن وصف النظام القائم بأنه نظام ديمقراطي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الضوء الوحيد في وسط الظلمة التي تلف دول المحيط، نجد أن قادته السياسيون يرسمون طريق الحياة الوحيد في العراق بمفهوم (التوبة أو العقاب) ويغيّبون أي أثر فعلي لسيادة القانون الذي يفترض أن يكون الركيزة الوحيدة في الدولة الديمقراطية. بل أن الغريب أن مفهوم التوبة أو العقاب يشمل فقط اصحاب فكر سياسي محدد، ولم يشمل قادة فرق الموت التي سلطت الاضواء عليهم وثائق ويكيليكس، التي زعمت أنهم قادة أحزاب وسياسيون بارزون يتصدرون مواقع مهمة في السلطة. كما أن رئيس السلطة التنفيذية عفى عن مجاميع مسلحة كانت قد أقترفت جرائم حقيقية بحق الشعب العراقي، وأستقبلهم في مكتبه دون أن نسمع منهم توبة ولا منه عقاب. فأين هي المفاهيم الديمقراطية التي تعطي كل ذي حق حقه؟ وأين حاكمية القانون والشعب وسيادته المطلقة؟ وبذلك يكون قد غاب عن أذهان القائمين على الحكم في العراق، من أن الديمقراطية الحقيقية هي التي تقوم على صياغة جديدة للقيم والمفاهيم التي يقف عليها القادة السياسيون، وضرورة التخلص من كل العوامل السلبية التي تطلق الغرائز التميزية بين المواطنين على أسس طائفية وأثنية وحقدية, وتسمح بأنتهاكات حقوق الانسان، وأن بلوغ الديمقراطية ليست بالخطب الرنانة التي يطلقها هذا السياسي أو ذاك، بل بالعمل الحقيقي الذي يحول الشعارات الى أفعال حقيقية على أرض الواقع تتحدث عن نفسها دون أن تحتاج الى خطيب مفوّه. أن القادة السياسيين هم مصدر مهم من مصادر الثقافة السياسية في المجتمعات المتحضرة، كما أنهم يجب أن يكونوا ممثلين حقيقين لجميع أفراد الشعب حتى المعارضين منهم، لأن الخصوصية الحزبية والشخصية يجب أن تكون قد ذابت لحظة التحول الى شخصية تسعى لخدمة عامة. أما أن يجري الحديث بكلمات تحط من قدر الافكار السياسية للآخرين ومن شخصياتهم، ويجري التسلط بعبارات يشم منها رائحة الصراع بين قوي له حق العقاب وضعيف ليس له غير التوبة، فأنها تمثل سقوطا مدويا للمسؤول وللافكار السياسية التي يلتزم بها. وهذا مافعله رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بتصريحاته وأجراءاته الاخيرة . صحيفة القدس العربي اللندنية