يبدو أن أركان السلطة الحاكمة بأمر الامريكان والايرانيين لازالوا يصرون على تذكيرنا بأنهم لايفقهون الف باء الحكم والسياسة والاقتصاد والعسكرية والف باء الأمن أيضا. قد تكون هذه أحدى ميزات الديمقراطية العتيدة التي نقلت الجهلة والأميين الى مواقع السلطة المتقدمة، بينما تقهقر العلم والعلماء والخبراء والاساتذة وأصحاب الفكر والثقافة وكل التكنوقراط الى الصفوف الخلفية، أن لم يكن الى السجون والمعتقلات والمقابر الجماعية بفعل الاسلحة الكاتمة للصوت والعقل والتفكير. فبعد أن أعتمدت أجهزة الأمن المتطورة في العالم على مبدأ الرصد والمراقبة للخلايا التي تخطط لتعكير الأمن وتنفيذ عمليات تهدد السلم الاجتماعي الوطني والقومي، بغية معرفة نواياهم الحقيقية وجمع الأدلة الثبوتية التي تفيد في أستصدار قرار الضربة الامنية الاستباقية من القضاء المستقل والنزيه، نجد أن السلطة في العراق تعمل بعكس هذا المنطق العلمي تماما. فبدلا من جمع أدلة الادانة تمهيدا للضربة الامنية الاستباقية، كانت أوامر السطة لاجهزتها الامنية تقضي بتوجيه الاتهام والتجريم الاستباقي كقاعدة أمنية يتم أعتمادها في عملهم. وقد تم تبني هذه الخطيئة الكبرى كمنهاج عمل على مدى السنوات المنصرمة، حيث كانت السلطة تغطي فشلها الأمني والاستخباراتي، وركضها اللاهث وراء الخروقات الأمنية التي طالت العراق من أقصاه الى أقصاه بهذا المنهج الأمني الفاشل، الذي يعد سيناريو الاعترافات الملفقة ثم يختار من بين الابرياء المعتقلين الذين تزدحم بهم السجون العراقية من يتم تلقينه، ثم يظهر علينا أحد المسؤولين الأمنيين بعد أقل من ثمان وأربعين ساعة فقط من الحدث الأمني، كي يعلن أعتقال كل من خطط ونفذ الخرق الأمني بما يفوق الفـــترة الزمنية التي تقضيها أرقى الاجهزة الأمنية العالمية في البحث عن المجرمين غير المرصودين لديها، مما كان يثير تساؤلات طريفة على السنة المواطنين، حول ما أذا كانت هذه مقـــــدرة أجهزة أمن السلطة في سرعة أكتشاف المجرمين، أذن لماذا لم يتـــــم أستباق الحدث الأمني كي نجنب شعبنا كل هذا القــــتل والدمار الذي يحصل يومــــيا؟ لكن العراقيين جميعا أكتشفوا بأن كل تلك الاعترافات كانت خدعة، حينما ظهر الكثير من المعتقلين في السجون السرية على أجهزة الاعلام، وبينوا كيف كان يتم الضغط الجسدي والنفسي عليهم كي يوقعوا على أعترافات وأقرار جرمي لم يقترفوه، بعد أن كانوا يعدوهم بالافراج أن فعلوا ذلك. كما قدمت لنا السلطة مشاهد حقيقية عرضتها القناة التلفزيونية الحكومية عن طريقتها المبتكرة في صنع المتهمين وتجريمهم عندما حصلت حادثة النخيب في محافظة الانبار، فأختطفت مواطنين أبرياء من منطقة الحادث ثم جالت بهم شوارع محافظة كربلاء، معلنة أن هؤلاء هم المجرمون ثم تراجعت وأطلقت سراحهم عندما وقف شعبنا ضد همجية السلطة وأستهتارها بكل الشرائع والقوانين. كل ذلك يجري لهدفين أحدهما أسوأ من الاخر، الاول هو تعزيز عامل الخوف من السلطة في نفوس المواطنين، للتغطية على الافلاس السياسي والاخلاقي الذي منيت به كل الاحزاب المشاركة في العملية السياسية، وعدم مقدرتها على الكسب الشعبي وتكوين قواعد جماهيرية حقيقية. أما الهدف الثاني فهو أضفاء طابع الكفاءة المهنية الخرافية لأجهزة الامن الذي مازالت الخروقات اليومية تهد من بنائها الهش القائم على أسس طائفية بحتة. في ضوء كل ذلك ووفق كل الأسس اللاقانونية التي تحكم العراق، أتت حملة الاجتثاث التي طالت جمعا غفيرا من الكوادر التدريسية في عدد من جامعات القطر خلال الشهر الجاري، بعد أن أتهمهم وزير التعليم العالي والقيادي في حزب الدعوة، بأنهم يعملون على تفخيخ عقول الطلاب بأفكار لاتخدم المجتمع، لكنه نسي بأن حزبه هو أول من أرسى سابقة تفخيخ العقول في ثمانينيات القرن الماضي عندما أرسلوا أعوانهم لتفجير وزارات ومؤسسات الدولة العراقية في بغداد، ثم السفارة العراقية في بيروت وقتل العديد من الدبلوماسيين العراقيين في الخارج. وعندما أستلم السلطة من الغزاة حكم البلد بعقول محنطة وبصائر مفخخة لم تجلب للعراق وشعبه غير الطائفية المقيتة وثقافة المكونات المتصارعة على السلطة والجغرافية والموارد والثروات. ثم جاءت الصفحة التالية المكملة للاجتثاث عندما شرعت قوات السلطة في الاسبوع الماضي بتنفيذ حملة مداهمات وأعتقالات شملت المئات من ضباط الجيش العراقي السابق، والاجهزة الامنية السابقة، وشيوخ العشائر الذين لايؤمنون بالعملية السياسية، وكذلك المشمولين بقرارات الاجتثاث الذين تم طردهم من وظائفهم، وكان العنوان الأبرز لهذه الحملة هو أتهام كل هؤلاء بعقد أجتماعات سرية، والتمهيد لمؤامرة هدفها القضاء على العملية السياسية حال أكتمال أنسحاب القوات الامريكية من العراق. وأذا كانت السلطة قد وضعت كل هؤلاء في خانة التأمر كي تبرر لنفسها القصاص منهم، بعد أن لم تكتف بكل القتل الذي طال أمثالهم وقطع أرزاقهم وأرزاق عوائلهم طوال السنوات الماضية من عمر هذه العملية الفاشلة، فأنها قد وضعت نفسها مرة أخرى في قفص التجريم بأنتهاك حقوق الانسان العراقي والتلاعب بمصيره وفق أهواء ونوازع غير منطقية. ففي الوقت الذي يتحدثون فيه عن قيم دستورهم العتيد الذي يحفظ كرامة المواطن وعدم مساءلته الا وفق قرار قضائي، نجد أن عمليات الاعتقال قد تمت بدون قرار قضائي، كما تم أقتياد المعتقلين الى أماكن غير معروفة من قبل ذويهم. وأذا كانت أجهزتهم الامنية قد بلغت من التقدم والتطور بما لاتنطق عن الهوى بل وفق دلائل وحقائق ملموسة، فكيف وردت أسماء أشخاص متوفين منذ عدة سنوات في قوائم الاعتقال بأعتبارهم من ضمن المتأمرين؟ أن الرعب الذي دب بين أركان السلطة الحاكمة بعد أعلان أوباما الانسحاب العسكري من العراق، قد جعل الكل في مواجهة المصير المجهول لهم، لكنه معلوم بالنسبة للشعب الذي تعرض الى أبشع أنواع الاستلاب الانساني على أيدهم. لقد تكشّفت المنطقة الخضراء بالرحيل العسكري الامريكي، ولم تعد تلك الثكنة العسكرية الحصينة التي تستُر المجرمين ولصوص المال العام والجواسيس والعملاء. فلقد حان رحيل المرجع والضامن الأكبر لهم، وبات الحق بمواجهة حاسمة مع الباطل، والحقيقة بمواجهة الزيف والخداع. ولان الطغاة لايستسلمون بسرعة فأن المعركة ستكون حاسمة وطويلة بين شعب العراق وسارقي قوته وحاضره ومستقبله. وما عملية الاعتقالات الجارية اليوم الا بداية خيوط الذعر الذي أستنفر بينهم جميعا. فالخطة القادمة هي مزيد من السجون السرية والاعتقالات والتعذيب، مترافقة مع بذل المال لشراء النفوس الضعيفة والذمم الرخيصة من عمائم السلطة ومشايخ الدولار، ثم ستتبعها عمليات أستفزاز ديني ومذهبي وقومي، بغية حشد الهويات الصغرى مرة أخرى خلف أمراء الحرب الذين سينبرون أيضا للدفاع عن الطائفة والتنكيل بالوطن. كما ستتعالى الاصوات مجددا للحديث عن الحل السحري للفدراليات والاقاليم، وضرورة أحتكار الثروات للجغرافية الصغرى على حساب جغرافية العراق. لكن خطورة المرحلة السياسية الراهنة وفداحة التضحيات التي ستُقدم فيها لاتلغي أطلاقا أهميتها القصوى في صُنع الارادة الشعبية العراقية الحقيقية، لان من يتبؤون السلطة اليوم سيكشفون تماما عن كل أوراقهم في خضم المعركة القادمة فيما بينهم، وكذلك فيما بينهم وبين الشعب، وبالتالي تصبح الخنادق أكثر وضوحا من قبل، وستختفي الفواصل القومية والاستثناءات الطائفية التي منحت هذا وذاك بعض الامتيازات كي يثري على حساب الشعب ويسرق المال العام. صحيفة القدس العربي اللندنية