لا ينشأ الدور الريادي لدولة ما من فراغ , بل يجب أن يرتكز على مقومات ذاتية وموضوعية . لعب الادوار في الساحة السياسية الاقليمية والدولية من دون مقدمات ومقومات مجرد خرافة , لان الدول كائنات حية ومقومات حركتها الصحيحة موقع وثروات مادية وبشرية , وأنسجام داخلي وخارجي , وقوة أقتصادية وعسكرية , وقرار سياسي مستقل . تلك هي من يحدد لها حيز الحركة في مسار العلاقات الدولية . فأما أن تسبح في بركة ماء أو تسبح في محيط وفقا لامكانياتها . لكن السياسة القطرية عندما وجدت أن هذا المنطق يشدها بقوة الى الرضا بدور متواضع يلائم أمكاناتها , شذت عنه ورسمت لها طريق أخر هو الدوران في مسار حركي لدول كبرى . من حق الزعامة القطرية أن يأخذها الطموح الى رفع شعار نكون أو لانكون . لكن أن نكون بأمكاناتنا الحقيقية , ونمارس دورنا في حدوده , أفضل من أن نمارس دور التابع لغيرنا ونرتدي جلباب ليس على مقاسات حجومنا . كانت مقدمات الدور القطري واضحة وناجحة في الوطن العربي عندما تحركت في لبنان , وتوسطت بين الفلسطينين والاسرائيليين , وبين الفلسطينين بعضهم مع بعض وفي غيرها . لكن أين هي المقومات التي ترسم الريادة الدولية لها بين الرواد الاخرين ؟ فالمساحة صغيرة في حسابات الحجوم , والكثافة البشرية قليلة , والانسجام داخل المحيط الخليجي غير متوفر , والقوة العسكرية متواضعة , والقرار السياسي ليس مستقلا تماما , لان وجود القواعد العسكرية الاجنبية داخل الدول يزيد من أهمية تلك الدول عسكريا وأمنيا لدى القوى الكبرى , فتترافق هذه الزيادة في الاهمية مع أنتقال القرار السياسي السيادي الى الخارج , أذ كلما أصبحت الدولة أكثر أهمية لدى الاخرين خاصة الدول الصغيرة , أصبحت أقل قدرة على أتخاذ القرار , وباتت أستقلالية قرارها وسيادتها منقوصة تماما . لكن هذا المنطق لايصح أبدا على القواعد العسكرية الامريكية الموجودة في أوربا , لانها وجدت لمقتضيات الامن الجماعي الاوروبي وليس الامن القومي الامريكي فقط كما هو حاصل في القواعد الامريكية في الاقطار العربية ومنها قطر . كما أن الدول الاوروبية التي توجد على أراضيها تلك القواعد باتت أمكاناتها العسكرية والاستخباراتية والاقتصادية , مكافئة تماما للامكانات الامريكية أن لم تتفوق عليها في بعض القطاعات , مما يعدم فرضية التبعية العسكرية والامنية والسياسية للمنظومة الامريكية , خاصة وأن تلك الدول أنشأت تجاربها السياسية الديمقراطية بنفسها , مما دفع عامل الجذب والانبهار بالتجربة الامريكية من قبل شعوب هذه الدول الى الوراء . أن مكمن القوة الحقيقية للدول يقع دائما خارج الحدود وليس في داخلها . بمعنى أن الدولة تكسب قوتها في ساحات الصراع السياسي والاقتصادي والثقافي الاقليمي والدولي وليس داخل حدودها مهما كانت قوتها في الداخل . لكن أين هي القوى الناعمة والعارية لقطر كسلاح فاعل ؟ وأين التجربة السياسية النموذج التي تثير الانبهار وتعزز أنطلاقة السياسة القطرية الى الفضاء العالمي , حتى نأمن على عدم تعثر أشقاءنا بأطراف هذا الرداء الواسع الذي لبسوه أو أقنعهم الاخرون بلبسه لتحقيق مصالح غريبة في الوطن العربي ؟ فطبيعة الحكم السياسي عائلي يملك ويحكم في نفس الوقت , بل يملك كل شيء في الوطن حاله حال بقية أقطار الخليج العربي . فالسياسة والاقتصاد والرياضة والشباب والشؤون العسكرية والامنية وغيرها كلها مؤسسات تقاد من قبل العائلة الحاكمة , وبرامجها تعتمد النهج الذي يختطه الامير ولا أحد سواه , وينعدم وجود السلطات التشريعية المنتخبة ديمقراطيا , كما أن الوصول الى السلطة لم يكن تداولا سلميا بل كان بعملية أنقلاب على النظام السياسي السابق. وأذا كانت السياسة القطرية تعتبر أن قناة الجزيرة ووجود أحد رجال الدين المهمين على أراضيها عوامل مهمة لدعم تنفيذ توجهاتها وتحقيق أرادات الاخرين في الوطن العربي , فأن هذين العاملين نسبيين ولايمكن التعويل عليها في التأثير في الرأي العام , والتجربة التركية خير مثال على ذلك , حيث كان الخطاب السياسي المباشر البعيد عن التناغم مع الغرب , والنهوض الاقتصادي والحداثة السياسية , عوامل فاعلة جدا في أثارة الانتباه الشعبي العربي الى هذه التجربة والتأثر الكبير بها , على الرغم من أنها تهدف الى تحقيق مصالح تركية , لان العمل السياسي الدقيق يختلف تماما عن الشعارات العامة التي غالبا ماترافقها تحركات غير واضحة المعالم , والبناء التأثيري في العقول والافكار تعجز عنه الشعارات لانها قادرة فقط على الاثارة . أن السياسة القطرية وضعت أقدامها في الطريق الخطأ عندما بدأت بأدراك وهم ما لاتحتاجه لتتخلص منه , وكان عليها أن تدرك ما تحتاجه لتحصل عليه قبل كل شيء أخر . أي كان عليها أن تجد الرداء المناسب لها قبل أن تمزق رداءها القديم الذي تشعر أنه يحد من حركتها . فهي كي تتخلص من عامل المساحة وهموم الجغرافية التي أحاطتها بدول أقليمية كبرى كالسعودية وأيران , رهنت مصيرها بحركة دول كبرى على الصعيد الدولي , وربطت مصالحها الاقتصادية والعسكرية والامنية بخارج المحيط , بعد أن فشلت محاولاتها في الضغط على دول الاقليم كي يقبلوا بخياراتها السياسية لمعالجة قضايا المنطقة , مما أدى الى تقاطعات سياسية حادة لها مع تركيا والسعودية ومصر قبل الثورة . وكان عليها أن تتجه لتفعيل أمكاناتها كدولة كي تصنع ريادتها بنفسها لا أن تلبس قناع دول كبرى كي تخيف المحيط . فالتخويف بأسلحة الغير والانظمام الى قافلة كبرى لايصنع ريادة لاحد . وأذا كانت اليوم مطمئنة الى أن وضع جهدها المالي والعسكري والسياسي في خدمة التحشيد الاجنبي في الوطن العربي , لن يرتب عليها دفع كلف سياسية كبرى بسبب حجمها الصغير وعدم وجود مصالح كبرى لها تخاف عليها من الضرر, لكن هذا الاتجاه لن يولد طمأنينة دائمة في عالم متغير التوازنات والتحالفات. نعم أن الفراغ الحاصل في المنطقة شجع السياسة القطرية على أستغلاله , لكن يجب أن يكون فعلا بناءا وليس خاطفا أو لحظيا أو يدخل في حسابات المزايدات السياسية لتحقيق مصالح أقتصادية , كما حصل في ليبيا عندما وفرت قطر الغطاء للتدخل الاوروبي , ثم راحت تمارس نفس السياسة الاوروبية بدعم شخصيات ليبية معينة على حساب غيرها , ثم تهرول لتوقيع عقود الغاز والاستثمارات النفطية فيها . ويبدو أن حسابات الرضا الاوروبي عليها للدور الذي قامت به في ليبيا لصالحهم , والمنافع الاقتصادية التي جنتها من هذه المشاركة , دفعها الى مزيد من لعب الادوار الساندة للجهد الغربي في المنطقة العربية , لذلك هي اليوم تحاول جاهدة جر الوضع في أقطار عربية أخرى الى نفس السيناريو , وصناعة بؤر ساخنة أخرى عكس الدور الذي مارسته سابقا , عندما كانت تشرع في أطفاء الحرائق في المنطقة . أن الدور الريادي الذي يطمح اليه الحكم في قطر , وعزمهم على وضع البلد الصغير في الخريطة السياسية الدولية طموح مشروع , لكن هذا الميدان يختلف عن الميدان الرياضي الذي حققوا فيه أنجازا , لان السياسة لاتباع الى أوربا كما يباع النفط والغاز , وأن حصل ذلك فهذا يعني التحول الى لعب دور الخادم , وهنالك فرق كبير بين دور الخادم والدور الريادي في السياسة الدولية . لكن مراقبة السياسة الخارجية القطرية داخل الاقليم يؤشر الى ذلك . فالتقافز في علاقاتها مع الدول العربية والاقليمية من الصداقة الستراتيجية الى العداء السافر , ومحاولات تحييد الاعب السعودي والتركي في المنطقة , وقبلها تحييد القذافي في أفريقيا لاسباب أقتصادية وجيوسياسية غربية , دليل دور خارجي مرسوم بعناية وأجندة أوروبية لايمكن الخروج عن مسارها العام . بينما يختلف موقفهم من الدور الايراني تماما , لانهم أحدى وسائل الغرب في الحوار مع أيران وتطمينها في حالات الغلو الاعلامي . لذلك ذهب القطريون الى تطمين الايرانيين علنا بأنهم لن يسمحوا بأستخدام القاعدة الامريكية التي في أراضيهم في شن هجوم على أيران , على الرغم من أنهم يعرفون تماما أن لاسلطة لديهم في هذا القرار , بينما كانوا واضحين جدا في أبلاغ المرحوم الرئيس صدام حسين بأنهم غير قادرين على منع الامريكان من أستخدام القاعدة الامريكية في أراضيهم لضرب العراق , لان الامريكان حزموا أمرهم في ذلك . أن أكثر مانخشاه أن تكون السياسة القطرية قد أتخذت من مقولة ( نكذب عليهم ويكذبون علينا ) في وصفهم للعلاقة السياسية بينهم وبين أيران , مبدأ عاما في علاقاتها مع الدول العربية أيضا , وأن يعزز الدور الذي لم ينل الاجماع الشعبي العربي الذي قامت به في ليبيا شهوة المصالح الاقتصادية والطموحات السياسية لديها , فتتغول في دورها الخدمي للسياستين الامريكية والفرنسية , كي تكوّن صورة مقبولة لها في نفوس صُنّاع القرار والرأي العام الاوروبي , وبالتالي تستثمر الغرب بهذه الطريقة كي يوليها ثقته الكاملة فتتحول الى الة بيده لتمرير مصالحه على حساب الامة في ساحات عربية أخرى , كما ترضي طموحها الذي بات يؤشر الى حالة مرضية وليست صحية , مستغلة غياب الدور المؤثر للعراق وسورية ومصر والسعودية والجزائر . كما نأمل الا تكون الاندفاعة القطرية في التهليل للتدخل العسكري الخارجي في المنطقة العربية ومشاركتها فيه , دفعا لخطر يهدد نمط السلطة فيها الذي لايختلف كثيرا عن الانظمة الاخرى , لذلك تحاول التأثيرعلى الحراك الشعبي العربي من أجل حماية نفسها .