حط َرئيس المكتب التنفيذي للمجلس الانتقالي الليبي رحالهُ في العراق الاسبوع الماضي، في زيارة غير معلن عنها مسبقا، فوقف رئيس الوزراء العراقي الذي بات يتوسل الآخرون زيارته بعد أن أصبح الزوار من الامريكان والايرانيين أهل بيت عنده، وقف كعادته بائع كلام معسول وخطيبا مفوّها بالباطل، يُلبسُ الاموات من الأبرياء العراقيين حُللا قشيبة، ويُعكّز أجساد المعاقين والمرضى والجياع على أوهام الانجازات التي تحققت في عهده، فيعلن للزائر أستعداد الحكومة العراقية لدعم ليبيا ومساندتها في أعادة الاعمار والبناء، وتقديم كل الخبرات التي حققتها في مجال بناء مؤسسات الدولة وأجراء الانتخابات وكتابة الدستور وبناء القوات المسلحة، ثم عرج لتقديم بعض من شذرات نظرية العمل المالكية التي يسير عليها العراق الجديد، ناصحا الضيف بضرورة بناء دولة المواطنة التي تركز على الاهتمام بالمواطن، وتنــــمية البلاد والعباد في شتى المجالات، وتجاوز تركة الانظمة الاستبدادية التي سعت الى تفتيت المجتمع وتفكيك مؤسسات الدولة، ولم ينس التأكيد على أستعداده للوقوف في مواجهة التحديات التي تواجه ليبيا على المستويين الداخلي والخارجي. يقينا أن كل عراقي أطلع على هذا الكلام الوارد في الموقع الرسمي لرئاسة الوزراء، والذي تناقلته الصحف والقنوات الفضائية، قد أستلقى على قفاه من الضحك فشر البلية ما يُضحك أو أصابه الدوار فأستفرغ كل ما في جوفه من هول صدمته بجهالة الحاكم، التي وصلت الى حدود الهَبل أو الجنون. فقديما قالت العرب أن كنت تدري فتلك مصيبة، وأن كنت لاتدري فالمصيبة أعظم. لكن من يتسلطون على رقاب شعبنا قد جمعوا الحالتين في سلوكهم اليومي أثناء ممارسة السلطة. فهم متيقنون من كل الاجراءات المأساوية التي يتقنون فعلها على أرض الواقع بسبق الاصرار والترصد وتلك هي المصيبة الكبيرة، أما الأكبر منها فهي أنهم يجهلون تماما كل القوانين السياسية والشرائع السماوية والوضعية، التي ترتب الحقوق ما بين الراعي والرعية والتي تنهض بالشعوب والاوطان. لكنهم مع كل ذلك يعتبرون السلطة هي أستحقاق سماوي أختصها الله بهم دون الآخرين، لذلك بات هذا التكالب المادي عليها هو أهم صفات تجربتهم، والتنافس اللاأخلاقي هو عماد الوصول الى الموقع الرسمي. فتمادت الجهالة بهم الى الحد الذي يتجرأ الحاكم على التحدث بكامل قواه العقلية، واصفا صور الدم النازف يوميا من أبناء شعبه على أنها تجربة ديمقراطية يجب أن ينهل منها الآخرون. ويسمح لنفسه أعتبار هدم الدولة والمؤسسات الوطنية فيها وأعادة تشكيلها على أسس طائفية وقومية متعصبة، أنجازا يجب الاسترشاد به. وأنه حقق أنجازا بكتابة دستور لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه كما يظن، وأجرى أنتخابات لم يجر مثلها في كل دول العالم الديمقراطية. بل أنه يتعدى على كل التقاليد العسكرية والعقائدية في بناء الجيوش الوطنية، فيتحدث عن مجاميع المليشيات والعصابات المسلحة في العراق بأنه بناء جديد للجيش العراقي. أن المفارقة الكبرى هو أن حديث المالكي عن الجنة العراقية التي لا توجد الا في مخيلته، كان يجري في نفس الوقت الذي كان يتحدث فيه أياد علاوي وهو أحد أقطاب العملية السياسية والاحتلال وله وزراء ومسؤولين في السلطة واصفا الوضع السياسي بأن (الشراكة الوطنية غائبة والانفراد في أتخاذ القرار يحكم السلطة، مما يضع علامات أستفهام كبيرة حول حقيقة الديمقراطية والتعددية السياسية وحرية التعبير والتداول السلمي ومستقبل الوضع السياسي في العراق) كما أنه يفند كل ما تفوه به رئيس الوزراء حينما يقول أن (الامن في تدهور خطير والاستقرار متزعزع والاقتصاد في تراجع والبطالة مستشرية ومساحات الفقر في تزايد والخدمات متدنية أو متوقفة والفساد الاداري والمالي هو القاعدة وليس الاستثناء). وأذا كان أياد علاوي يُتهم بانه يتحدث بهذا المنطق لأسباب شخصية ومصلحية في ظل الصراع المحموم على تبوؤ المنصب الاول، فما الذي يدفع رئيس البرلمان للحديث بنفس هذا المنطق أيضا عن الوضع العراقي؟ وما الذي يجعل زعيم المجلس الأعلى الاسلامي الذي هو شريك أساسي في الحكم، يعلن عن مشروع يستند الى خمسة مبادئ لحل الازمة العراقية كما يسميها؟ ولماذا كل هذه التصريحات النارية التي تنطلق من أفواه النواب وأعضاء الكتل السياسية ضد رئيس الوزراء والوزراء وضد بعضهم البعض؟ وكيف تتجرأ المنظمات الدولية على أصدار تقارير يندى لها الجبين من كثرة الدلائل والمؤشرات عن الفساد المالي والاداري التي تلطخ سمعة الحكومة؟ كيف يجري كل هذا والوضع العراقي يعيش بأبهى حُلة، ويعرض رئيس الوزراء خبراته لتعديل وتقويم الاعوجاجات في التجارب العالمية والاقليمية والعربية؟ أن السياسة منهج عملي يعتمد حقائق ووقائع على الارض وليس خطابات لاتتعدى حجم أمتداد لسان هذا المسؤول أو ذاك، وهي مسؤولية كبرى لايتحملها الا أصحاب الضمائر الحية الذين لديهم الشجاعة الكاملة في تقويم الخطأ حينما يحصل، وتعزيز الصواب حينما يسمعون أصداء الارتياح الشعبي منه. أما أصحاب النيات المبيتة والفاشلون في تحقيق الاجماع الوطني، فهم وحدهم الذين يتصورون أنهم يمتلكون الحقيقية. وكان الأجدر بالمالكي مواجهة القصف الايراني والتركي على الاراضي العراقية بالحزم القانوني الدولي، وبالإرادة الشعبية الوطنية الخالصة، وأن يعيد جريان المياه الى الانهار التي قطعتها أيران عن المزارع العراقية، قبل أن يبرز عضلاته في مقارعة التحديات الخارجية للآخرين. كما كان حريا به أن يوقف القتل اليومي في شوارع ومدن العراق، وأن يقضي على الاتجار بالاطفال والنساء، وأن يمحو الامية التي عادت الى المجتمع العراقي بفضل حزبه وأعوانه، قبل أن يبرز عضلاته الضامرة في مواجهة التحديات الداخلية للآخرين. فلقد أنتفخت القشرة الخارجية للخارطة العراقية من كثرة التقيحات التي المّت بالجسد العراقي بفعل أطراف العملية السياسية، حتى بات بأمكان أي مغرض أن ينشب مخلبه فيها فينفجر العراق الى أكثر من خمسين دولة وكيان ومقاطعة ومستعمرة وطائفة وقومية. فالذي يستمع اليوم الى أعضاء المجالس المحلية للمحافظات والاقضية والنواحي، يتصور نفسه يعيش في منظمة الامم المتحدة وليس في وطن واحد أسمه العراق. حيث أن الجميع يتحدث عن الحدود الادارية وكأنها حدود بين دول، وعن مناطق متنازع عليها، وعن الثروات وكأنها مُلك لهذه المحافظة فقط دون العراق، وهاهو نائب رئيس حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة رئيس جمهورية العراق جلال الطالباني، يدعو الشعب الكردي الى (الوحدة لأن الوقت حان لاعلان دولته المستقلة) في تصريح صحفي له قبل عدة أيام. أن التعلق بالزمن الماضي هو ديدن السياسيين الفاشلين ومنهم نوري المالكي، فعلى الرغم من أن السياسة هي عمل مستقبلي يتصدى لوضع رؤية مستقبلية لجميع مجالات الحياة، لكن رئيس الوزراء وبسبب عدم وجود أي مشروع منجز لديه أو في طريق الانجاز أو حتى خطة يستطيع التحدث بها مع الآخرين، لذلك راح يشير الى ضيفه الليبي عن أوجه التشابه بين النظامين السابقين في العراق وليبيا وخصوصا في هدر الثروات، وحرمان الشعبين وأنتشار مظاهر الفقر والعوز في البلدين على حد تعبيره، لكن مليارات الدولارات التي أهدرت في عقود وهمية، ومثلها دخلت الى حسابات المسؤولين في أحزاب السلطة، ولتغطية سفراتهم لحضور المؤتمرات وأجتماعات الامم المتحدة كما حصل مع الطالباني مؤخرا، ولتأثيث دور المسؤولين وأخرهم رئيس البرلمان العراقي، كل ذلك يتغاضى عن الحديث فيه. كما يتناسى أعداد المهاجرين والمهجرين في داخل العراق وخارجه، والذي أشارت تقارير الامم المتحدة اليه على أنه أكبر هجرة حصلت في التاريخ بعد هجرة الفلسطينيين من أرضهم في العام 1948. أضافة الى حالات الفقر المدقع التي وضعت ثلث سكان العراق تحت خط الفقر، حتى بات البحث في أماكن القمامة عن الغذاء أو مايمكن بيعه للحصول على الطعام، صور كثيرة العرض في كل مدن العراق، بعد أن تلاعب المسؤولون الحكوميون بالبـــطاقة التموينية وتاجروا بها ثم سرقوهــــا من أيدي أصحاب الدخل المحدود والطبقات المسحـــوقة. فهل بعد كل هذه المآسي يوجد عاقل يُصدّق نظرية العمل المالكية التي دمرت العراق؟ صحيفة القدس العربي اللندنية