مع اقتراب الموعد المفترض لانسحاب القوات الأمريكية نهاية العام الحالي، والتي تحاول أطراف العملية السياسية أن تنسب الفضل فيه إلى الاتفاقية الأمنية التي وقعها رئيس الحكومة مع الرئيس الأمريكي السابق، يتجدد مسلسل القتل العبثي في العراق، تارة بالكواتم، وتارة بالسيارات المركونة وهي تحمل في أحشائها نذر موت أعمى تم تصميمه كي لا يميز بين ضحاياه، على أساس العمر أو الجنس أو العرق أو الدين أو المذهب، ولكي يرّحل أكبر عدد من العراقيين إلى بارئهم، شهادات على وحشية القتلة وهمجية أدوات القتل. وعلى مأساوية ما يجري فقد يكون رسالة واضحة المقاصد لمن طغى واستبد واستأثر بالسلطة ومكاسبها وكأنها تركة خالصة له وحده، أن الموت أرحم عندما لا يميز بين العراقيين، من سلطة جائرة غلّبت الهوى في كل امتيازاتها وجعلت من تفريق بين أبناء الوطن الواحد دينا ومذهبا واختيارا، فكرست التفرقة والتمييز دستورا غير مكتوب، فوق ما جاء في النصوص الدستورية من محاصصة مقيتة وألغام مؤقتة جاهزة للانفجار في كل لحظة. الولايات المتحدة حينما جاءت بما تملك من قوة سياسية واقتصادية وعسكرية لاحتلال العراق، لم يكن في قاموسها حينذاك وجود لكلمة انسحاب او ما شابهها أو ما جاورها، فالعراق بما يمتلك من ثروات بشرية ومادية، وما يحمل أبناؤه من مشروع نهضوي، لهم القدرة على توفير مستلزماته وأدواته، كان منذ البداية يقع على رأس جدول اهتمامات التحالف الصهيوني الغربي ضد الأمة العربية، وبالتالي فقد كان الاحتلال المفتوح للعراق حاضرا في خطط اليمين الأمريكي الجديد والمتطرف، بعد أن تم إخضاع هذا الخيار للبحث في مراكز الدراسات الاستراتيجية ونوقش على أعلى المستويات في مجلس الأمن القومي الأمريكي ووكالة المخابرات المركزية وغيرها من مراكز صنع القرار السياسي في الولايات المتحدة بكل جوانبه العسكرية والمالية والسياسية، فقد توصلت إدارة بوش أن احتلال العراق استثمار ناجح بكل المقاييس، ولا يحتاج أكثر من اتخاذ قراره الفوري، ولكن حصاد الحقل لا يأتي متوافقا مع حصاد البيدر وخاصة في بلد بمواصفاة العراق، فالخطط التي وضعها مخططون في غرف مكيفة مع أعلى متطلبات الراحة وعلى خرائط ناعمة الملمس، سرعان ما اصطدمت بتضاريس الإرادة العراقية الصلبة، التي فاجأت صناع القرار في واشنطن ولندن وبقية عواصم العدوان بعنادها وشموخها، فسقطت حكومات غربية استسهلت المضي في خيار العدوان مع الحماقة الأمريكية، مع السقوط المفاجئ والمذهل لمزيد من جنودها في المواجهات التي دافعت عن كرامة العراق، في طاحونة موت حقيقية لم تخطر على بال أحد، في بلد صوره الغزاة على أنه متلهف لرؤية المارينز الأمريكان وهم يدخلون من بوابات العراق الجنوبية والشرقية وربما من غيرها، ليوزعوا عليه سلالاً من حصص مقننة أو مفتوحة من حقوق الإنسان والديمقراطية، ولكن واشنطن كابرت أكثر مما يسمح لها نزيف جرحها العميق، وعضت على جروحها الراعفة، وحاولت وهي تحت كيل الضربات دراسة المشهد الدموي المرعب ووضع الحلول له، وجندت خبراءها لوقف نزيفها الاقتصادي الذي قاده إليها طيش القوة ووهم النصر، والذي مرغته المقاومة العراقية المسلحة الباسلة في وحل أزقة المدن العراقية، وأخذت فاتورة الجيش الأمريكي تتصاعد على نحو أذهل الذين خططوا لفسحة قصيرة الأمد أو سياحة مسلحة لقوات النخبة الأمريكية، ظنوا أنها أهون على الجنود - كما أخبرهم قادتهم - من التدريبات والمناورات التي تنفذها وحداتهم بالذخيرة الحية، وإذا بالتوابيت الملفوفة بالعلم الأمريكي تتدفق على القواعد الجوية في طول الولايات المتحدة وعرضها بلا توقف، حتى اضطر بوش لإصدار قرار بمنع التغطية الصحفية لمراسم دفن قتلى الجيش الأمريكي أو استقبال جثثهم في المطارات، لأنها أكبر من أن يتحملها المجتمع المجروح في كبريائه منذ حرب فيتنام، والذي يرى أن حكومته ضللته وخدعته بشأن رغبات العراقيين أو دوافع الحرب، فبدأ التحالف الغربي بالتفكك وانفرط عقده مبكرا، وسارعت دول لم تكن حماستها أقل من حماسة الولايات المتحدة لأخذ جزء من كعكة العراق، لسحب جنودها بخزي وانكسار لن تمحوه السنون، وحتى أمريكا بدأت تخطط لقبول فكرة الهزيمة المغلفة بلباس النصر الكاذب. لم يكن قرار الانسحاب الأمريكي ومن قبله الانسحاب الفعلي الاسباني والإيطالي والبريطاني من العراق، خيارا ذاتيا بقدر ما كان هزيمة عسكرية وسياسية ونفسية مدوية للولايات المتحدة وللتحالف الدولي الذي قادته، وعرّضت به مكانة أمريكا على الساحة الدولية لهزة عنيفة لن تستطيع الولايات المتحدة بكل ما تمتلكه من مراكز دراسات وماكنة إعلامية، من انتشالها من الهوة السحيقة التي وقعت فيها، أو التغطية عليها أو تجاوز تداعياتها التي ستبقى ماثلة أمام الذاكرة الجمعية الأمريكية عقودا طويلة، قلبت الأمور على كل الأوجه الممكنة، ولكنها لم تجد غير ترك ساحة عصية على قبول الغرباء أيا كان لونهم، ولكن الأمر بحاجة إلى إخراج مناسب وهو ما عجزت عنها سينما هوليوود حتى الآن. فالولايات المتحدة واستنادا إلى ما أفرزته ميادين القتال، تريد بكل ما تمتلك من خوف من تعاظم مأساتها في العراق، في القرن الواحد والعشرين الذي أرادته أمريكيا خالصا، تريد أن تسحب آخر جندي من الأرض التي تحولت إلى أرض ملتهبة تقذف حممها بوجه جنودها حيثما وجدوا قبل أن تفلت الفرصة من يديها وكي تحافظ على ما تبقى من ماء الوجه إن كان ثمة مزيد منه. ولكنها تريد البقاء في البلد الذي أذاقها مرارة الهزيمة، إن لم يكن لاستنزاف خيراته ومعالجة أزماتها الاقتصادية المتلازمة والتي نجمت أصلا عن حماقة الغزو الأمريكي نفسه، فعلى الأقل لإطفاء جذوة الانتقام من شعب حولها إلى كرة تتقاذفها أحذية العراقيين دون ملاعب وصدر إليها لعنته الأبدية. فكيف يمكن التوفيق بين إرادتين متصارعتين؟ تذهب مراكز التخطيط العسكري الأمريكية إلى فرضية ساذجة، وهي أن ما يخفف من حدة التصادم بين وجهتي النظر، يجب أن ينطلق من مطالبة عراقية ببقاء القوات الأمريكية باعتبارها ضامنة وحيدة للسلم الأهلي بمقابل التلويح بإثارة الهلع في المجتمع العراقي من عودة الاحتراب الذي شهدته بعض مدن العراق عامي 2006 و2007، عندما سهلت القوات الأمريكية لمليشيات تابعة لإيران أن تدخل على خط القتل الجماعي انتقاما من الهزيمة المنكرة التي لحقت بإيران في حرب الثماني سنوات، ومن أجل اشغال العراقيين ببعضهم، وظنت الإدارة الأمريكية أن هذه اللعبة كفيلة بإقدام بعض الأطراف على الاستنجاد بقواتها طلبا للحماية. ومن هنا يمكن أن نجد التفسير المنطقي لعودة دوامة العنف ومسلسل القتل عبر أهداف منتخبة، يمكن أن تستدرج انفعالات منفلتة ودون روية وتدبر، إلى البحث عن شماعة لتعليق الفعل عليها، وبسبب طبيعة الأهداف التي تعرضت للاستهداف، كان ممكنا أن تتوجه أصابع الاتهام على نحو فوري، إلى العامل الطائفي وتحميله جانبا من حشد الإصطفافات المتقابلة، لكن ما حصل بعد جرائم منتخبة في أماكن تنفيذها وفي توقيتاتها، أن العراقيين وحتى البسطاء منهم، كانوا أكثر نضجا ووعيا من أكثر رموز الطبقة الحاكمة زعما للخبرة السياسية والتجربة الميدانية، فأفشل العراقيون بحسهم ما خططه أعداؤهم ضد بلدهم ووحدته وتماسك نسيجه الاجتماعي، وتم تشييع الفتنة إلى مثواها الأخير.