قاتمتان هما التجربتان العراقية والافغانية . وأذا كان التبرير الغربي للغزو في التجربة الافغانية , أن حكم طالبان جعل من الاراضي الافغانية موقع قيادة وسيطرة للقاعدة التي شنت من خلالها هجمات الحادي عشر من سبتمبر في العام2001 على الاراضي الامريكية , فأن التجربة العراقية لم يكن لها مايبررها أطلاقا , وكان الربط بينها وبين ذلك الذي حصل مجرد وهم أنتجه العقل الامريكي الذي غيبه هجوم القاعدة , فأرادت الولايات المتحدة المطعونة في كبريائها أثبات بطولتها على مسرحه , وجعله بوابة عهد جديد في شرق أوسط كبير لها فيه اليد الطولى في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة والامن وكل مناحي الحياة , لكن قوى الضرورة الوطنية العراقية والافغانية أفشلت منهج قوى الاختيار العدواني الامريكي , مما أضطرها للتراجع عن دورها التفردي الذاتي وأستنهاض قوى أوربية , كانت لها كلمتها في الشأن العربي والشرق الاوسطي فيما مضى كالبريطانيين والفرنسيين ودول أوربية أخرى . وأذا كانت التجربة العراقية أحد أهم العوامل في أسقاط الرايات الزائفة لدعوات حقوق الانسان والديمقراطية والشفافية وسيادة القانون والحياة الحرة الكريمة , التي كانت الولايات المتحدة خاصة والغرب عامة يرفعونها وهم يوجهون صواريخهم الى المدن والبلدات العراقية , ومؤسسات الدولة العراقية المدنية , ويمنحون جنودهم حق القتل والتعذيب والاغتصاب ضد المدنين الابرياء , مما جعلهم يواجهون أزمة أخلاقية وسياسية وثقافية أمام الرأي العام العالمي , فأن الغرب يحاول اليوم أستعادة المبادرة من جديد , والظهور بمظهر أخر مغاير للمظهر الذي عرفناه به في الحرب على العراق , من خلال تلميع صورته بالدور الذي قام به في ليبيا , وأضفاء الطابع الانساني على العملية التي قادها فيه , وهذا هو الطريق الاستعماري الجديد الذي بدأت تروج له مراكز البحوث الغربية , وتتبناه الصحف الصادرة في عواصمهم , وهي نفس الاصوات التي كانت تشجع على غزو أفغانستان والعراق , وتبرر القتل والدمار الذي لحق بشعبي البلدين بحجة ضريبة التغيير ومخاضات الولادة الجديدة التي تنتظرها شعوب المنطقة , حتى باتوا يحاججوننا اليوم بأنهم قد أستفادوا من تجربة العراق كما يزعمون , لذلك خلت التجربة الليبية من التفرد بالعمل العسكري بعد حيازتها على قرار دولي من الامم المتحدة , وأن العمل على الارض كان ليبيا خالصا من مواطنين تصدوا للنظام الحاكم بدون تخطيط مسبق من المخابرات المركزية الامريكية , وأنهم أبتعدوا عن أطلاق قواتهم البرية لتجتاح الاراضي الليبية , وأن القرار العربي كان طالبا لعونهم من خلال الجامعة العربية , وبذلك فأنها الوصفة الجديدة التي يجب أن نقبلها كي نتخلص من أنظمتنا المتهرئة . أن الترويج لهذا المنطق أنما هي صحوة أستعمارية جديدة للقضاء على التحرك الشعبي الذي بدأته طلائع شعبنا العربي في تونس , وهو يهدف بالدرجة الاساس الى الاطاحة بعمليات التغيير السلمي , ومصادرة المبادرة التي كانت ذاتية الحركة بدون دعم أممي ولا قوى غربية ولا قرار من الجامعة العربية . فأخطر مافي الانتفاضة الشعبية العربية بالنسبة للغرب هو صفتها السلمية التي بدأت في تونس ومصر , لان هذا الاسلوب يغلق الباب في وجه التدخل الدولي الغربي , لان الشعب في هذه الحالة يواجه السلطة المحلية بصدور عارية , ويصبح بعيدا جدا عن التماس مع القوى الغربية اللهم الا بالدعم المعنوي الاعلامي الذي لايرتب حقوق للداعمين على الطرف المنتفض . أما عندما تكون الانتفاضة مسلحة وتتداخل فيها قوى سياسية لها علاقاتها مع الغرب , فان العامل الخارجي سوف يكون موجودا من خلال توريد السلاح والتدريب والتوجيه والتنسيق الاستخباراتي وبمررات شتى أخرى , لذلك يجد المراقب السياسي بصورة واضحة تناقض المواقف الغربية من جراء الصدمة التي عمت الغرب بعد الانتفاضتين التونسية والمصرية لانهما كانتا سلميتين , مما يعني أغلاق الباب أمام التدخل الخارجي , بينما كانت المواقف أكثر وضوحا وعلى درجة كبيرة من التنسيق في الانتفاضة الليبية , لانها جنحت الى مواجهة النظام بالسلاح مما سهل التدخل الدولي تحت حجج كثيرة لاعلاقة لها أطلاقا بالحماية الانسانية , لان قتلى الغارات الغربية تجاوز الثلاثون الف مواطن بريء , وأضعاف هذا الرقم من الجرحى والمعاقين . وبذلك فأن أي نظام سياسي جديد سينشأ في القطر العربي الليبي , لابد وأن تكون عليه أستحقاقات سياسية وأمنية وأقتصادية غربية , أفرزتها عمليات حلف الناتو من خلال القصف الجوي والتنيسق العسكري والمخابراتي الذي قام به مع المنتفضين الليبين , ولايمكن لاية جهة التنصل من ذلك حتى لو كان التيار الاسلامي هو الذي سيتولى قيادة البلاد في المرحلة المقبلة . وهذا هو الطريق الذي يحرص الغرب اليوم على أن تسير عليه الانتفاضات العربية . لقد فهم الغرب مغزى الحراك الشعبي العربي المطالب بأسقاط الانظمة الجاثمة على صدره , وبات ليس من مصلحتهم التشبث بأدارات غير مرغوب فيها شعبيا , لان النظرية الغربية تصنف الشعب العربي على أنه شعب متطرف ضدهم , ويمكن أن ينتقل تطرفه الى ساحاتهم في حالة الاستمرار بدعم أنظمة لايريدها , لذلك فأنهم حريصون اليوم على التخلص من كل الحكام العرب , وسنجدهم يدعمون كل تحرك شعبي في هذا الاتجاه شرط أن يكون مسلحا , كي يبقى النظام العربي الرسمي مرتبطا بالمنظومة الغربية بشروط جديدة , من خلال أستحقاقات التعاون في أسقاط السابقين بين الغرب وقوى الانتفاضة , وليس أسقاطهم بالارادة الشعبية المستقلة . فالنظرة الغربية للنظم العربية تقوم على أساس واحد هي أنها ليست نظما سياسية بالمعنى الحقيقي المتعارف عليه , بل هي مؤسسات أقتصادية وأمنية دورها الوحيد تقديم الخدمات في هذه المجالات الى المنظومة الغربية وتحافظ على مصالحها في بلداننا , لذلك رعتها وضمنت حمايتها من السقوط , ولايمكن بأي حال من الاحوال أن تسمح تلك القوى بذهاب مصالحها أدراج الرياح , من خلال تسليم مقاليد الامور بيد قوى شعبية جديدة على الساحة السياسية , تهدد سياستها الاقتصادية والامنية في منطقة تعتبر هي الاخطر على النظام الغربي من حيث ديمومته وتسلط قوته , لذلك فلا أنتفاضات سلمية بعد التجربتين التونسية والمصرية في الوطن العربي بعد اليوم . أن أندماج بعض النظم العربية كقطر والامارات والاردن بالمشروع الغربي القائم على حرف الثورات العربية , وتغيير توجهاتها السلمية الى توجهات مسلحة في عملية أسقاط الانظمة, سوف تعيق عملية التحول السلمي الذي ينشده المواطن العربي , وترتب عليه أستحقاقات هو لايرغب في أعطائها الى الغرب مقابل دعمه , كما أنها تؤدي الى عسكرة المجتمع وتقديم تضحيات لامبرر لها , لان الانظمة لاتستطيع أستخدام القوة العارية بشكل مفرط تجاه ثورات سلمية , لكنها تستخدمها الى أقصى مدياتها عندما تكون الثورة مسلحة , لان المبرر سوف يكون متوفرا بيد الحاكم , لذك كان الحسم في الثورتين التونسية والمصرية سريعا من خلال أسقاط النظامين بفترة زمنية قصيرة , لكن الحسم في ليبيا طال الى فترة ستة أشهر . أن الحل العربي مطلوب في هذا الحراك السياسي القائم اليوم في أقطارنا , لكنه مرفوض تماما عندما يكون جزءا من منهج غربي يقدم خدماته في ضوء المصالح الغربية وليس المصلحة العربية العليا , ثم أين هي الديمقراطية التي تتحصن بها هذه الانظمة كي تصبح رأس حربة في عملية التغيير الجارية في الاقطار العربية الاخرى؟ اليست هي أيضا أنظمة ليس لديها أجماع شعبي حقيقي , وترتبط بعلاقات مع الكيان الصهيوني المعادي للامة ؟ صحيفة القدس العربي اللندنية