صورة الشرق الأوسط الجديد التي رسمتها أميركا خضعت لتغييرات فرضتها أحداث مفاجئة وخارج حسابات نتائج البحوث الإستراتيجية التي أعدتها مجاميع التفكير المنظرة لصقور اليمين الصهيوني الأمريكي. تضمنت التغييرات تكتيكات الوصول إلى النظام الجديد التي بنيت أصلا على التدخل العسكري المباشر لإسقاط الأنظمة التي قررت الامبريالية التخلص منها كل لأسباب خاصة به. الخطوة الأولى التي تعثرت هي خطوة إزالة السد العراقي القوي بنظامه وجيشه وتأثيراته القومية والإقليمية والدولية. كان الاميركان يظنون إنهم سيسقطون العراق بعد أن يأكل الحصار قلبه ورئتيه وينحف أطرافه ويصير شعبه لقمة سائغة لا حول له ولا قوة. لقد سقط النظام العراقي طبقا لمعطيات المواجهة غير المتوازنة بين أقوى جيوش العالم وبين جيش تخلّف قرابة خمسة عشر عام عن ركب تطور الجيوش في العالم بسبب الحصار وقوته الجوية خارج خطوط الفعل تماما. غير إن المفاجئة التي ما حسب لها نوابغ الفكر الصهيوني في معاهد البحث الاستراتيجي أي حساب هي تحول قيادة العراق وحزب البعث وجزء مهم من جيش العراق إلى مقاومة مسلحة شرسة جسورة أسقطت المشروع الأمريكي برمته في أنفاق مهلكة وفرضت على الاحتلال مسارات وخيارات لم تكن في وارد تفكيره. أول معطيات تبدل الخطط الأمريكية تمثل في مغادرة لغة التهديد بانتشار القوات شرقا وغربا من العراق وانتشرت إيران بدل ذلك في جسد الوجود الاحتلالي كقوة مشاركة في الغزو وفي رسم صورة النظام الجديد في العراق. إيران بنظامها الأصولي المعروف وبتطرفه الطائفي الذي يلبسه لستر حقيقة تطلعاته القومية الفارسية الباحثة عن سبل التمدد على حساب العرب انطلاقا من العراق والتي خسرت الكثير في سعيها هذا بعد أن تصدى لها العراقيون في حرب الثمان سنوات واجبروها على التوقف ومن ثم عادت لتعيد الكرة تحت أجنحة الغزو وعبر أحزاب وميليشيات معروفة بفارسيتها أو ولاءها الذليل لمنهج ولاية الفقيه الطائفية الفارسية تعاقدت مع الغزاة الأمريكان في خيانة سافرة للوطن وللدين وللإنسانية بكل معانيها. إيران فرضت حالها في العراق كشريك في خطط الغزو والاحتلال لأسباب تطلبتها ضرورات وحسابات أميركية منها توفير الأجواء والبيئة الإقليمية المناسبة لجوار الجيوش الغازية للعراق من جهة وفرضت حالها من خلال خرق الوضع الجديد بواسطة عملاءها وأعوانها وأدواتها فضلا عن فرض حالها بقوة اكبر في الفترة اللاحقة كنتيجة عرضية للتدمير الهائل لقوة أميركا الذي أحدثته المقاومة العراقية الباسلة. إن اضطرار أميركا لتغيير خط فعلها الأول وتصوراتها لاحتواء المفاجئة في العراق عبر التحول من الاعتماد على سطوة القوة العسكرية الغاشمة إلى العملية السياسية المخابراتية قد اجبر أميركا ضمنا على التعاطي مع التواجد الإيراني في العراق على انه حقيقة لا يمكن لأميركا أن تواجهه في ظروف انكسارها غير المعلن في وحل العراق ومع الخرق الإيراني الذي سمحت به أميركا ضمن مخططها لإغراق المنطقة بفوضى الطائفية السياسية ودمويتها, كانت هنالك أطراف عربية تدخل على الملف العراقي بطريقة الأفاعي الدبلوماسية ضانة إن هذا الدخول سيضمن لها سلامة البقاء خارج إطار الضربات أو الانتشار الذي أعلنت أميركا إنها تنوي القيام به عسكريا أو ظانّة بحسابات فقيرة بائسة إنها بالتقرب السياسي والدبلوماسي مع منتج الاحتلال في العراق ستضمن لنفسها علاقات حسن جوار وعلاقات تفاهم دبلوماسي وسياسي مع أميركا ينجيها من مد الفوضى وهيجان الديمقراطية التي أقرت لتكون بديلا للاحتلال بالدبابات الأمريكية. خط الفعل الآخر الذي لم يكن ظاهرا بشكل واضح في الصورة هو الوحش التركي الغافي على ضفاف الفرات وعلى وسادة الحدود الإيرانية العراقية السورية ينتظر الدخول الهادئ والناعم ليحصل على حصته من غنائم الغزو بهدوء لا ينسجم كثيرا مع الطبيعة العثمانية الشرسة والفضة المعروفة غير انه مطمئن إلى الخيارات الأمريكية كونه يمثل جناح الطائفية الآخر . تركيا العضو في حلف الناتو والتي وقفت بشكل مثير للشكوك في وجه الاشتراك العلني في غزو العراق كانت تشغل جناحا استراتيجيا في خطط الغزو واحتلال العراق وفي إعادة ترتيب المنطقة طبقا لإرادة الصهيونية وجدت نفسها في خانق لا يليق بتطلعاتها في لعب الدور الإقليمي الذي تريده لنفسها وتريده لها أميركا والصهيونية مقارنة بالاختراق الإيراني المتحقق ميدانيا. تركيا التي يحكمها (ديمقراطيا) جناح من أجنحة الإسلام السياسي وجدت نفسها هي وذيولها العربية بحاجة إلى خارطة عمل جديدة تضعها أميركا لمعادلة النتائج غير المحسوبة بدقة أو التي جاءت عرضيا بسبب الدخول الإيراني الذي صار أمرا لا مفر منه عند اعتماد خطة الاحتلال بالديمقراطية والفوضى الكونداليزية أو بكلمة أخرى عندما صارت الطائفية السياسية هي سلاح التغيير الثوري الأمريكي للأنظمة التي وضعتها أميركا على خارطة التغيير وهي حصرا الأنظمة المحسوبة على الخط القومي العربي بهذه الدرجة أو تلك. صحيح إن أميركا قد حققت هدف احتلال العراق وإسقاط نظامه الوطني كهدف استراتيجي أولي للغزو والاحتلال غير إنها وجدت نفسها أمام نتائج كارثية تتطلب تغير خطط إنتاج الشرق الأوسط الجديد. وبدأت تطفو على السطح دعوة أميركية كانت في الخلف من بين الأسباب والمسوغات التي سيقت لغزو العراق زورا وبهتانا إلا وهي موضوعة الاحتلال لتحقيق الديمقراطية. لقد برز الإعلام الأمريكي الديمقراطي بعد أن تدحرجت مسوغات أسلحة الدمار الشامل والعلاقة مع القاعدة ليس كضرورة لاعتماد مسوغ آخر مضاف فقط، بل لأن التكتيك وأفقه الاستراتيجي قد بدأ يتحول إلى اعتماد ادعاء الديمقراطية كواجهة لإنتاج الشرق الأوسط الجديد لأن بقاء العلاقات التقليدية القديمة للإدارة الأمريكية مع أنظمة عربية فاقدة للنهج والأفق الديمقراطي قد أصبحت بمثابة فضيحة لا تقدر الإدارة الأمريكية على احتواءها حين تبنت مسوغ الديمقراطية في العراق وازدواجية مفضوحة ضارة على للحكومة المنتجة باحتلال العراق عسكريا. بكلمة أخرى اعتمدت أميركا على هدف بناء نظام ديمقراطي في المنطقة لإنتاج الخارطة السياسية الجديدة التي أرادت تحقيقها بعد إسقاط السد العراقي بدلا من القوة العسكرية. ومن الواضح إن الخطة الأمريكية قد وجدت ضالتها في قوى الإسلام السياسي المتهافتة للوصول إلى السلطة بأي ثمن، ولكون هذه القوى منقسمة كما هو معروف إلى تشكيلات طائفية سياسية متناحرة ومتناقضة تحقق هدف التفتيت الأمريكي الصهيوني للأمة العربية . الديمقراطية كشعار جديد لاستكمال متطلبات الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق وجدت لنفسها مناخا قد يكون أمضى وأقوى من نتائج السحق بالدبابات والصواريخ والقوة الغاشمة بواسطة قوى الإسلام السياسي الطائفي. إذن الديمقراطية تتحول إلى قوة غاشمة لتحقيق مآرب الصقور الصهاينة واللوبي الصهيوني دفعة واحدة ودون الحاجة إلى استخدام للقوة المكلفة ماديا واعتباريا والتي سقطت هيبتها في العراق وأفغانستان. صار للديمقراطية الأمريكية (ماكنة الاحتلال الجديدة) ذراعين أحدهما إيراني يركب موجة الإسلام السياسي الطائفي الشيعي الاممي والآخر هو الإسلام السياسي التركي الذي يغرد في واد آخر للأممية الإسلامية!! إيران استخدمت طاقاتها المباشرة والبديلة المستمدة من أذنابها ميليشيات وأحزاب الإسلام الشيعي السياسي الطائفي في العراق ومناطق أخرى من جناح الأمة الشرقي وتركيا لحقت بها بعد حين لتوازن الحال الطائفي في استكمال مكشوف لتحقيق أهداف قومية على حساب العرب. الغريب إن بعض العرب الكتاب والمثقفين لا يخجلون من الترويج للمعادل الطائفي التركي في كتابات تتصاعد حدة نبراتها تماشيا مع تعالي صوت اللاعب التركي. والأغرب إن النظام السوري كان قد انفتح مع تركيا على أفق علاقات ظنّ البعض معها إن ربيعا حقيقيا قد انبلج فجره بين الدولتين ولم يلتفت كثيرون إلى إن ذاك الانفتاح كان له أسباب أخرى متداخلة ومحسوبة بحسابات تركية لاختراق الهيمنة الإيرانية على ساحة سوريا ومحسوبة سوريا للبرهنة على إن النظام السوري مستعد لخلق اتزان في العلاقة بين البلدين!!. كلا البلدين ظنا إن لديهما هامش وطني وقومي لتحديد طبيعة الصلة بينهما غير إن العصا الأمريكية هي التي ألهبت ظهر الجانب التركي وفرضت عليه تبني حركة التغيير الاخوانية في سوريا لاستكمال الدور الذي كان مضموما لتركيا. اللاعب الطائفي القومي الفارسي دخل من بوابة المقاومة العربية ومن بوابة احتلال العراق كناتج عرضي ومصمم في آن معا وها هو اللاعب التركي يلحق به بعد أن جرب الاقتراب من حماس وأطراف عربية أخرى حسبت على قوى الممانعة والرفض والمقاومة ومثل علينا تمثيليات درامية بائسة صدقها معظمنا تحت تأثير اللهفة والضنك من سقوطنا تحت طائلة القبضة الصهيونية المدمرة وجبن أنظمتنا وخستها. لاحظوا أيضا إن ساحة الحرب هي المشرق العربي والأقطار التي استهدفها الغزو والاحتلال ونتائج رياحهما الصفراء هما العراق وسوريا حصرا وتحديدا إلى جانب ليبيا في مغرب الأمة. فالعراق ومقاومته البطلة أسقط بقوة أميركا الغاشمة وها هي سوريا تواجه ذات المصير بعد أن فشلت دبلوماسيتها وسياساتها المعروفة في المناورة في احتواء رياح الشر العاتية ولم تنفعها علاقاتها النفعية والنفاق البائسة مع إيران عبر سنوات طويلة. ولا يحتاج أي باحث إلى جهد خارق ليقرر أو يكتشف سبب التركيز على العراق وسوريا .. انه ببساطة لأن القطرين,سوريا والعراق, هما منبع الروح القومية العروبية التي جاء الاحتلال لاقتلاعها واجتثاثها وبوسعهما لو توفرت النية الحقيقة أن يديرا الآن ميزان الحالة 180 درجة فيما لو قرر النظام السوري التحالف مع المقاومة العراقية وهو الخيار الأمثل الذي نراه كقوميين وكثوار ومناضلين إيران واجهة لأممية إسلامية سياسية غير متدينة تغلف المد القومي الفارسي، وتركيا أممية إسلامية مقابلة يتستر خلفها النهج القومي التركي، وكلاهما يغذيان آلة تدمير الأمة العربية والنهج القومي التحرري العربي. وأي عربي يرى في تدخل تركيا السافر في الشأن السوري معنى مختلف للاحتلال والغزو فهو واهم. واستخدام مشاعر السخط العربي على تعسف وأخطاء النظام العربي عموما وسوريا بشكل خاص هي موجة ستنحسر عما قريب ليجد العرب أنفسهم إزاء نتيجة مطابقة في سوريا لنتيجة احتلال العراق ونتيجة مشابهة تماما لنتيجة العدوان على ليبيا . نحن نستقرئ في بيئة مليئة بالأشواك ونعرف تماما إن دماءنا تسيل من كل أطرافنا، غير إننا لا نجد أي بديل لهذا الخوض كفرصة لفتح الطريق سالكا أمام مَن ضاعت عليهم فرص الرؤية السليمة و أغشت أبصارهم رياح الثورة المزعومة. ولا يحزننا أبدا إن سهام التشكيك واتهامات الولاء لهذا النظام أو ذاك تطالنا من صم بكم عمي ومن أهل عيون مفتوحة على حد سواء. وها نحن نعلنها بوضوح ليس حبا بنظام سوريا فنحن والعالم يعرف الأذى والضرر الذي الحقة نظام سوريا بالعراق وشعبه ، بل حبا بسوريا وعشقا لدورها القومي المحوري الذي اثبت شعب سوريا على المدى حيويته, بأن ما يجري هو غزو لسوريا بأدوات تركية تعتمد الإخوان المسلمين وتنتهج خط أميركا بتوزيع المشرق العربي بين إيران وتركيا تحت صمام إدارة أمريكي صهيوني مكشوف وواضح .. وما أصدق برهان على ما نذهب إليه ونزعمه اكبر من بقاء دول التبعية الذليلة لأميركا خارج إطار ثورة الربيع العربي المصممة في دهاليز معاهد الصقور لليمين المتطرف الأمريكي الصهيوني.