لا يبدو أن ثمّة نهاية للربيع العربي الذي تجاوز وتخطّى حدود المواسم وإنتهى الى صيف شديد الحرارة مناخيا وسياسا وثوريا. فإختلطت على الناس البسطاء الكثير من الأمور التي كانت بالأصل مبهمة وغير واضحة المعالم. ودبّ التشاؤم الى أوصال الأمّة بعد أن عوّلوا وتمنّوا كثيرا أن يكون ربيعهم هذا أجمل وأفضل المواسم التي مرّت بهم على مدى العقود الأخيرة. ومعلوم أن أي فصل يطول أكثر من اللازم يعنى أن ثمةّ خلل معيّن في مكان ما. ومعلوم أيضا أن لا أحد يريد, رغم أن الارادة وحدها غير كافية, أن يضع يده على مكامن الخطأ ويشخّص العلّة بشيء من الشجاعة والثقة بالنفس. فالثوار, على إختلاف مشاربهم وإنتماءاتهم, يحمّلون كل التباطيء والتردّد والسلبيات في مسيرة الثورة الى بقايا الأنظمة البائدة والعناصر المضادّة, بطريقة يُراد منها إظهار نقاوة وطهارة خاصة بل وقدسيّة دون الاعتراف بحقيقة أن الناس في أي ظرف أو زمان معرّضون, حتى وإن كانوا ثوّارا وأصحاب حق, الى الخطأ المقصود أو غير المقصود. وبالتالي فان العجز الواضح والفشل, رغم تواضع ومحدودية تأثيره حاليا, في مسار بعض الثورات العربية لا يمكن تبريره دائما بالقاء اللوم على الأنظمة القمعية الفاسدة دون إجراء مسح دقيق وغربلة لمكونات وعناصر كل ثورة على حدة. فثمة خوف حقيقي مبرّر لدى قطاعات واسعة من المواطنين العرب, خصوصا لدى أولئك الذين تكتوي أيامهم ولياليهم بنيران القمع والبطش والارهاب على يد الأنظمة الحاكمة, من أن تدخل الثورات, بعد تضحيات جسام وخراب ودمار الوطن, الى مرحلة تصفية حسابات داخلية وعرض عضلات على الملأ وإستغلال عواطف ومشاعر الشارع الهائج لتحقيق مكاسب وجتى ثمار طازجة كان يُفترض أن تصل الجميع بالتساوي. لأن واحدا من أهداف الثورة, حسب برايي المتواضع جدا, هو إلغاء مبدأ أو نظام "حصّة الأسد" التي يُطالب بها الكثير من "الثوّار"في هذا البلد العربي أو ذاك. ثم أن الاشكالية الماثلة للعيان والتي تجعل أو جعلت بعض الثورات تراوح في مكانها هي أن هدف جميع الثوار واحد, أي إسقاط النظام وبدء مرحلة التغيير, لكن النوايا والغايات والطموحات مختلفة باختلاف الوسائل والسبل المتبعة لتحقيق الهدف المشار اليه سلفا. بل أن مفهوم الثورة نفسه غير واضح المعالم ويشوبه الغموض السياسي والثقافي لدى الكثير من الثوار. .فثمّة من يتصوّر أن الثورة تتلخّص فقط في إسقاط النظام الفائم وينتهى الأمر. بدليل أن قلّة قليلة من الثوار فقط, وعلى إتساع رقعة الثورة والتمرّد, لديها فكرة واضحة وتصّور مقبول لما بعد الانتصار. أمّا البقية فالله يعلم.. نحن ما زلنا, رغم مرور عدّة أشهر, في إنتظار موسم الحصاد بالنسبة لثورتي تونس ومصر. لكن الظاهر أن الكثيرين ممّن ربما إستعجلنا في وصفهم بالثوّار, بعد أن إجتاحتنا موجة عارمة من التفاؤل والأمل, ينطبق عليهم المثل العراقي الشائع الذي يقول: "إسمه بالحصاد ومنجله مكسور". وكذلك المثل الآخر " تغرق السفينة إذا كثروا ملاّحيها". بالرغم من أن سفن الثورات ما زالت, والحمد لله صامدة في وجه الأعاصير والزوابع وتقلّبات الأجواء. لكن هذا لا يعني أن على البحارة أو الثوّار أن يتركوا الحبل على الغارب كما يُقال. فما زال برّ أمان الثورات بعيدا! ولكي تُختصر المسافات وتتعمّق الآمال وتترسّخ في عقول وقلوب الناس الرغبة والقدرة والجدّية في المشاركة في التغيير, ينبغي علينا أن نميّز بين ثائر وثائر. "فما كلّ من طلبَ المعالي نافذا - فيها, ولا كلّ الرجالِ فحولا". كما يقول المتنبي. أو بعنى آخر ليس ثائرا كلّ من حمل سلاحا ووقف ضد نظام ما. ويمكن لبعض "الثورات "ذات الطابع والمحتوى الرجعي أن تعيد عجلة التطوّر والنمو والتحرّر الى الوراء. علما بان أمريكا, التي تحوّلت بين ليلة وضُحاها - يا سبحان الله -من دولة إمبريالية عدوانية, حليفة إستراتيجية وداعمة أبديّة للكيان الصهيوني الغاصب, الى دولة "ثورية" تناصر الثورات العربية الحالية وتشجّع بقية الشعوب على التمرد والثورة ضد أنظمتهم القمعية الفاسدة. وكأن عقود القهر والقمع والفساد والاذلال التي عشناها بلا ناصر أو معين أو حتى كلمة عزاء أو مؤاساة, لم تكن من صنع أمريكا نفسها التي أمتصّت دمنا ونفطنا وثرواتنا وعقولنا في دعمها اللامحدود واللامشروط لكل نظام جائر وظالم وفاسد في العالم العربي. mkhlaf@alice.it