لحرب الثماني سنوات استحقاقات أخلاقية وقانونية لو أن المجتمع الدولي يسير على هديها، لطالب إيران نيابة عن العراق بأن تدفع له التعويضات عما تكبده من خسائر بشرية ومادية على مدى سنوات الحرب، عن المعاناة التي تعرضت لها أسر الضحايا من الشهداء والأسرى والمفقودين والرعب الجمعي الذي أحاق بأطفال العراق نتيجة القصف الذي تعرضت له مدنهم، لأن إيران هي التي أصرت على المضي في خيار الحرب حتى النهاية وحتى تحرر العراق كما كانت تطرح من شعارات، وموقف إيران هذا لم يكن خيارا معزولا عن وهم القوة التي ظنت أنها تمتلكها على طريق تحقيق نصر خرافي على العراق، ولو أن الخميني كان يعرف الغيب ويعرف ما تخبئ له الحرب من هزيمة سيتجرع كأس السم في نهايتها، حتى يوافق على قرار 598 لمجلس الأمن الدولي، لانصاع إلى دعوات المجتمع الدولي ووافق منذ صدور قرار مجلس الأمن الدولي المرقم 479 في الثامن والعشرين من أيلول 1980 أي بعد أسبوع من بدء المعارك الشاملة على جانبي الحدود الدولية بين البلدين وأوقف الحرب ووضع حدا للمعاناة الإنسانية. لأن العراق من جانبه كان قد وافق على قرار مجلس الأمن المذكور فور صدوره، وبالتالي وضمن المعايير الدولية فإن العراق أسقط عن نفسه كل الحجج والذرائع التي يمكن أن تساق ضده سواء من الأمم المتحدة أو من إيران نفسها، ولكن إيران ركبت موجة العناد التي اشتهرت بها على مر العصور دون أن تمتلك القدرة على كسب الحرب لصالحها وبالتالي تعطي المبرر لشعبها والرأي العام العالمي لتبني ذلك الموقف المتصلب حد الكسر، لكنها لم تستند فيما ذهبت إليه على أساس راسخ لذلك الرفض البليد، مراهنة إيران الوحيدة من رفض قرار مجلس الأمن أنها كانت على يقين مطلق من قدرتها على تحقيق النصر على العراق في ساحة الحرب ويبدو أن ما دفعها بهذا الاتجاه ليس حسابات عسكرية أو سياسية بقدر ما كانت موقفا شخصيا من الخميني فضل أن يقاوم كل النصائح بوقف القتال والذهاب إلى مائدة المفاوضات المباشرة أو عبر وساطة الأمم المتحدة لحل مشاكل البلدين على أساس يعيد الحق إلى نصابه، ولو أن الزعامة الإيرانية وضعت في حسابها احتمالا واحدا من آلاف الاحتمالات بأنها ستخسر الحرب لوفرت على نفسها حشدها الضائع لمواردها البشرية والمادية وما لحق بها وبالعراق أيضا من خسائر هائلة في الأرواح والممتلكات، ولكن حصر السلطات بيد الولي الفقيه الذي كان يعطي قراراته صفة الإلزام الديني هو الذي منع المؤسسات الإيرانية العسكرية والسياسية من مجرد إبداء وجهة نظر مخالفة لما يقرره الفقيه وكان يعتبر سلطته امتدادا لسلطة الأئمة المعصومين، ومجرد طرح الأفكار على هذا النحو يكون الجدال فيها تحديا صارخا للمعتقدات الدينية بل وتحديا للولاية التي استقرت بعد رحلة طويلة عند الولي الفقيه، وكان هذا هو الارهاب والقمع الفكريين اللذين منعا الأصوات النزيهة من أن ترتفع لتضع حدا لطاحونة الموت التي كانت تدور دون أن تتمكن إيران من تحقيق شيء من أهدافها المعلنة أو السرية من استمرارها بالحرب. وعلى وفق هذا الموقف الفهم القانوني، فإن إيران هي التي يجب أن تدفع التعويضات للعراق مؤسسات وأفرادا عما لحق بها وبهم من خسائر ودمار، ولا أحد يعرف على وجه الدقة كيف تضع الحكومة الإيرانية نفسها في موضع مطالبة العراق بدفع التعويضات؟ إن قرار مجلس الأمن 598 لعام 1987 والذي توقفت الحرب استنادا إليه لم توافق عليه إيران، نتيجة للرفض الشخصي له من جانب الخميني على الرغم من مطالبة الكثير من الزعامات العسكرية ومجلس الدفاع الأعلى بالقبول به قبل فوات الفرصة كي لا تأتي الموافقة مذلة لإيران، وكانت تلك القيادات ومعها معممون مثل هاشمي رفسنجاني قد بذلت جهدا مستميتا لأقناع الزعامة الدينية الإيرانية بقبول القرار، لأن إيران تصفرت كل قدراتها العسكرية والاقتصادية، وتركت الحرب ردود فعل غاضبة على مستوى الشارع الإيراني لهول الخسائر التي دفع فقراء إيران نسبتها العظمى، كانت الزعامة الدينية تماطل في تأخير الموافقة على قرار 598 بمراهنة ساذجة على وقوع معجزة في جبهات القتال، ولكنها حينما اصطدمت بصخرة صلبة، لم تجد بدا من الموافقة على القرار بعد عام كامل من صدوره . فعلى أي أساس تطالب إيران بالتعويضات بدلا من أن تدفعها للعراق؟ إذا كانت تستند على قرار مجلس الأمن 598 فإن القرار لم ينص على منح أي من طرفي الحرب شيئا، وكل ما ورد فيه بشأن الجنب المالي هو ما ورد في الفقرة السابعة والتي نصت على ما يلي ( يعترف بمقدار الدمار الذي وقع خلال النزاع، والحاجة إلى جهود إعادة الإعمار، بمساعدة دولية مناسبة حال انتهاء النزاع، ويطلب من الأمين العام اختيار فريق من الخبراء لدراسة قضية إعادة الإعمار، وتقديم تقرير إلى مجلس الأمن.)، فاستنادا إلى أي قانون أو مبدأ تريد إيران أن تقلب المفاهيم والقواعد القانونية رأسا على عقب، حينما تطالب العراق بدفع التعويضات، على أكثر الاحتمالات أن إيران التي أصبحت على شفا حفرة الإفلاس، نتيجة التورط الإيراني بمخططات التدخل في كل دول المنطقة ومعظم دول العالم وما تنفقه من أموال طائلة لشراء الوكلاء والعملاء والأتباع، وبسبب الحصار على تجارتها الخارجية، باتت تبحث عن قارب نجاة لاقتصادها المتدهور، ولم تجد غير العراق الذي زرعت فيه الكثير من وكلائها وأدواتها والذين يمكن أن يدعموا مطالباتها الخيالية بالتعويضات، ولا غرابة في هذا فأحد رؤساء مجلس الحكم السابق كان قد دعا إلى تعويض إيران عن حرب الثماني سنوات، فتصرف على نحو لا يدع مجالا للشك في القضية التي يدافع عنها أو الفريق الذي ينتمي إليه. إيران هذا سلوكها المتواصل، وهي لا تحترم من لا يقف بوجهها عند الضرورة لأنها تخاف ولا تستحي، وهي في الوقت الذي أكدت فيه نزعتها العدوانية في قصفها المستمر للقرى الكردية في شمال العراق، ولو كانت تقيم أدنى وزن للطبقة الحاكمة حاليا في العراق لخجلت من أحراجها أمام العراقيين والرأي العام العالمي، ولكنها تعتبر الطاقم الحاكم مجرد أرقام مودعة في حسابها السياسي، ويكفي أنها كانت تعترف بمطاردة المسلحين الأكراد الإيرانيين داخل الأراضي العراقية ، ثم يأتي رئيس لجنة الأمن والدفاع في مجلس النواب ليدافع عنها وينفي ما تعترف به هي بنفسها وليقول بأن القوات الإيرانية لم تدخل الأراضي العراقية، ولم يتأخر الرد القاسي عليه من قائممقام قضاء جمجمال ليوكد أن رئيس لجنة الأمن والدفاع تبنى موقف إيران في رواية ما حدث في المنطقة، إيران إذا كان عندها في سلطة الأمر الواقع في العراق هذا الرصيد لا تحتاج هي للمطالبة بالتعويضات لأن هؤلاء هم الذين سيدافعون عن حقها المزعوم، ولكن الشعب العراقي له موقف ثابت من كل المشهد هذا، فهو في الوقت الذي يصر علة المطالبة بالتعويض عليه من إيران عن كل ما لحق بالعراق من دمار وضياع فرص التقدم والتطور، لن ينسى من يتراصف مع أعدائه ويضيع على العراق حقا تاريخيا ثابتا، نتيجة انتماءات سياسية ومغانم زائلة أو رد دين قديم لإيران بذمة البعض من ساسة الزمن الضائع .