عندما هب عصف العمل الإرهابي الأخير في أوسلو نكسنا كعرب ومسلمين رؤوسنا قبل غيرنا خشية أن يقلعنا من جذورنا الضعيفة وغصوننا الواهنة ويبعثرنا هنا وهناك. فنحن منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر العتبة الأضعف في سلم البشرية، وكان لتنظيم القاعدة شرف وضعنا في عنق الزجاجة. في كل بقاع الأرض من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها ما أن يحدث عمل إرهابي إلا وتوجهت الأنظار إلينا فنحن أول الشعوب المتهمة وآخر الشعوب المحترمة. ألسنا كبش فداء الإرهاب؟ ألسنا أصحاب مفاهيم العنف الإسلامي والإرهاب الإسلامي؟ هذه صورتنا أمام الغرب، إنها صورة بشعة تشوهها يوميا الآلة الإعلامية الضخمة التي يسيطرعليها الصهاينة والمتطرفين الغربيين. لذلك لم يكن غريبا أن تنفرد بعض وسائل الإعلام الأمريكية والغربية بالتطبيل علينا وتحميلنا مسئولية إنفجار أوسلو قبل أن تبدأ الجهات المختصة بالتحقيق في الحادث الإرهابي. وحمله التضليل المتعمدة هذه تمثل جريمة مع سبق الإصرار والترصد بحق المسلمين، إن لم تكن إحدى واجهات الإرهاب. تجمع المحللون السياسيون بسرعة مذهلة أمام أبواب وسائل الإعلام الغربية، كل منهم يدلو بدلوه في بئر الثرثرة والسفسطة ليخرجه ممتلئا بكلمات جارحة ضد المسلمين. أمر عجيب أن تختلف جنسيات هؤلاء المحللين وإتجاهاتهم الفكرية والسياسية لكنهم متفقون جميعا على توجيه الضربة القاضية للعرب والمسلمين. والأنكى منه أن يتورى الإعلام العربي كالجرذ المذعور أمام تلك الإتهامات كأنه متيقن من صحتها أو يجد حرجا في مواجهتها. بل إن بعض الفضائيات العربية إحتضنت التحليلات المعادية للمسلمين من خلال ربط العمل الإرهابي بالرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للنبي محمد ( ص ) كردً فعل، لكنه متأخر جدا عن وقته! والبعض ربطه بتهديد مزعوم للملا كريكار زعيم حركة أنصار الإسلام الكردية بأنه" سينتقم من النرويج في حال نفيه منها". هذا التهديد أولا: لم يؤكد من أية جهة محايدة. ثانيا: إنه ليس من المعقول أن تفتح النرويج ذراعيها لإستقبال زعيم منفي مهدد بالقتل ويعيش من خيراتها، وتؤمن له الحماية الكاملة من ثم يتوعدها بالإنتقام بدلا من أن يشكرها على فضلها وكرمها. فتلك جسارة وقباحة ما بعدها قباحة! بل جريمة تضعه تحت طائلة القانون. لقد خرجنا من موقف الإعلام العربي إتجاه العمل الإرهابي في اوسلوا بصدمة مفزعة وهي إن إعلامنا بتخاذله هذا إنما يخدم أعداء العرب والمسلمين. ومثل هذا الإعلام ربما يكون مأجورا أو تحركه أصابع خفية مما يتطلب سبر أغواره وإستكشاف دهاليزه الخفية. على العكس منه كان الإعلام النرويجي الرسمي وغير الرسمي إعلاما نزيها محايدا لم تهزه المأساة رغم قوتها وبشاعتها، إعلام متسلح بيراع الصدق ومتدرع بالصبر, لذا كانت نبال الإستفزاز تتكسر بسهولة ما أن تلامس درعه المتين. كان صدر الاعلام النرويجي رحبا رقيقا كقلوب الشعب النرويجي، ولأنه لسان حال الشعب بأكمله لذلك لم ينجرف إلى تيارات الكذب والتشويش وتحريف الوقائع كبقية وسائل الإعلام الامريكية والأوربية. بل بقي أمينا وفيا صادقا مع نفسه ومع شعبه. فكان محط إعجاب الجميع داخل وخارج النرويج. في المواقف الصعبة التي تمر بها الأمم يكون التريث والصبر هما سيدا المواقف لحين إستجلاء الحقيقة كاملة. هذه هي المهمة الحقيقية للإعلام أن ينقل الوقائع بكل أمانة وصدق للشعب ولايتحيز لطرف ما على حساب الأطراف الأخرى. إنها مسئولية أخلاقية قبل أن تكون مهنية. في حين أثبتت المحطات الأمريكية والأوربية المتطرفة بما لا يقبل الشك إن شهرتها لا تتناسب مع إدائها فقد خذلت الحقيقة وركضت وراء السراب ففقدت بذلك أخلاق المهنة وثقة الناس. ومنها محطات ( CNN ) و ( BBC ) و ( SKY NEWS ) و ( واشنطون بوست ) و ( وول ستريت جورنال ) و ( ويكلي ستاندرد ) وغيرها. إنها تصلح بأن تكون تلميذة أمام الإعلام النرويجي تتعلم منه أصول المهنة وأخلاقيتها. يبدو لنا بإن أفضل من عبر عن ذلك الهراء الإعلامي لتلك المحطات المغرضة هو الدبلوماسي البريطاني ( كريج موراي ) بقوله" لم تصدق عيني حقيقة ما أشاهده أمام شاشة التلفاز لمدة لا تقل عن ست ساعات عن صورة الهلع والمبالغة في التهديدات الإسلامية. فقد إستمر المحللون السياسيون يجرعوننا السموم بلا توقف، دون أن يتبادر إلى ذهنهم ولو لوهلة واحدة بأن منفذ العملية قد لا يكون مسلما". الغريب في موقف هذه المحطات الوقحة إنها لم تتراجع عن منزلقاتها الخطيرة وتعالج تحيزها العنصري المقيت أمام الناس بل إستمرت بعرض مسلسل الكذب والتشويه حتى بعد أن ظهرت الحقيقة كاملة للجميع. فهي لم تعترف بإخطائها وإتهاماتها للعرب والمسلمين! ولم تقدم إعتذرا على أقل تقدير لما يزيد عن مليار مسلم! فهل يجوز بعد هذا أن نتابع أخبارها ونثق بها؟ ألا يصدق عليها قول الخطيب الروماني كورنيليوس تاسيتوس " عندما نكشف الجريمة فلا ملجأ لها سوى الوقاحة". حتى الدعوة التي أطلقها الكاتب الأمريكي المعتدل ( جيمس فالوس ) في صحيفة ( الواشنطن بوست ) حول تقديم اعتذار للعالم الاسلامي - بعد تبني الصحيفة لتحليل الصحفية الأمريكية ( جينفر روبن ) ذات الميول المعادية للعرب والمسلمين- لم تلق دعوة فالوس اذان صاغية من الصحيفة. ولو كانت الصحيقة قد إرتكبت نفس الخطأ مع اليهود الذين لا تزيد نسبتهم عن عشرة ملايين في كل العالم لقدمت لهم ألف إعتذار وإعتذار. ولمً أكتف اليهود بإعتذار الصحيفة فقط! لطالبوا بتعويضات خيالية جراء الإساءة لسمعتهم. فهل سيجرأ نظام عربي أو منظمة عربية أو إسلامية كمنظة المؤتمر الإسلامي والجامعة العربية وغيرها على مقاضاة تلك المحطات والصحف؟ الجواب معروف. نتساءل بإستغراب: لماذا لم تطلق وسائل الإعلام الأمريكية والأوربية صفة ( عملية إرهابية ) على تفجير أوسلو وما أعقبه من مجزرة جماعية بحق الأبرياء؟ سيما بعد أن تبين إن من يقف ورائها مجرم يميني متطرف غير مسلم، بل يمقت العرب والمسلمين ويمجد الصهيونية كحركة عنصرية؟ لو إفترضنا إن الإرهابي كان مسلما! هل سيلتزم الإعلام بإطلاق نفس الصفة ( إنفجار في اوسلو ) أم يصفه ( عملية إرهابية ) ؟ يستغرب مثلنا المحلل السياسي الأمريكي ( جيب غوجلر ) من هذا الموقف الشاذ!؟ ويتساءل مثلنا" هل ستطلق وسائل الاعلام الأمريكية والغربية وصفه هجوم فقط أي ليس فعل إرهابي لو كان منفذ العملية أندريس برينغ بريفيك مسلما"؟ إنها الحقيقة وقولها" في زمن الخديعة عمل ثوري" كما ذكر جورج أوريل. من جهة أخرى لماذا لم تعاود أجهزة الإعلام دعوة نفس المحللين السياسيين الذين كالوا الإتهامات جزافا للعرب والمسلمين ليبرروا أسباب تهجمهم أو يعترفوا بخطاياهم أو يقدمو إعتذارا على أقل تقدير لمن أساءوا لهم سيما بعد أن تبين بأن بعض الضحايا مسلمين بينهم عراقية ( رفل محمد جميل ) شابة في ريعان الصبا! أم هي طبخة أعدت بشكل دقيق لضرب الإسلام؟ ألايصح قول الكاتب الأمريكي ( غلين غرينوالد ) بأن الصحافة الأمريكية لها تعريفها الخاص للأرهاب فهو " عنف بطابع إسلامي حكرا على المسلمين فقط. ولا يصح إطلاقه على غير المسلمين". الجميع يعترفون نظريا بأن الإرهاب لادين له ولا قومية ولا جنس ولا لون ولا وطن وهذه هي حقيقة الإرهاب ففي بطاقة تعريفه كتب في تلك الخانات مجهولة وصورته المثبته في بطاقة الهوية بلا ملامح مميزة. لكن على أرض الواقع يركنونه في خانة الإسلام فقط! وفي ذلك ظلم وإجحاف بحق مليار مسلم. في حديث عن الإرهاب الدولي مع الأستاذة النرويجية ( KARI ANN ) تطرقت إلى الخط الوهمي بين الإسلام والإرهاب وطلبت مني التوسع في هذا الموضوع ومناقشته خلال المحاضرة القادمة لأهميته. علما إن الحديث سبق التفجير الإرهابي في أوسلو ببضعة أشهر.الأستاذة النرويجية تمارس مهنة التدريس من فترة طويلة وتجيد عدة لغات ولديها عدة شهادات اكاديمية. إنها تتقد ذكاءا بل هي شعلة من الثقافة والمعرفة، ورغم سعة وتنوع مكتبتها التي تضم ما يزيد عن ( 3000 ) كتاب لكنها لم ترو ظمأها المعرفي بعد، ولاتعطشها الدائم للإصدرات الجديدة ومتابعتها الأحداث اليومية المحلية والدولية وأبرز التحليلات السياسية. تحدثت عن الإرهاب في أمريكا مستندا إلى إحصائيات نشرها مكتب التحقيقات الفدرالي ( FBI ) غطت الفترة 1980- 2005 وكانت نسب العمليات الإرهابية موزعة كالتالي: 42% منها نفذت من قبل عصابات من امريكا اللاتينية ولم تحدد بالطبع جنسية الدول ولا أديان المنفذين! 24% من العمليات الأرهابية نفذت من قبل تنظيمات يسارية أمريكية. 7% من العمليات الإرهابية نفذتها منظمات يهودية متطرفة. 6% من العمليات الإرهابية نفذتها مجموعات إسلامية متطرفة. 5% منها نفذتها مجموعات شيوعية ولم تحدد جنسية المنفذين. 16% منها نفذتها مجموعات أخرى متفرقة. من جهة أخرى بلغ عدد العمليات الإرهابية في أورب ( 583 ) عملية كانت حصة المسلمين منه ( 4 ) عمليات فقط! ولا نريد الحديث عن بقية الجرائم كتهريب المخدرات ومافيات تجارة الرقيق الأبيض وتهريب الأسلحة وغسيل الأموال والإغتيالات وغيرها ذات العلاقة بالإرهاب وتمويله. ممن حصة العرب والمسلمين فيها معدومة أو محدودة. ثم تساءلت بمرارة: ألسنا نقف أمام حقائق مؤلمة؟ طالما إن حصة العرب والمسلمين من الأرهاب هي الأقل! فلماذا يسلط الضوء عليهم ويعتم على الآخرين؟ ولماذا لا تنساق وسائل الإعلام الأمريكية والأوربية وراء الإرهاب اللاتيني واليساري واليميني المتطرف؟ وهو برأينا الموجة القادمة من الإرهاب التي ستجتاح بقوة الدول الأوربية ما لم تبادر إلى دراسها بعمق وتشخيص طرق مواجهتها بأسرع ما يمكن. حسنا! صنف الإرهاب اليهودي شأنه شأن الإسلامي تصنيفا دينيا. ولكن لماذا لاتطبل له وسائل الإعلام الأمريكية والأوربية كما تطبل للعرب والمسلمين؟ طلبت مني الأستاذة الفاضلة ( KARI ANN ) بأن أترجم هذه المعلومات الخطيرة الى اللغة النرويجية لأهميها وضروة إطلاع النرويجيين عليها مع إستعدادها لتقديم أية مساعدة بهذا الشأن. وفي النهاية عبرت عن أسفي بملاحظة وهي أن المواقف الأمريكية والأوربية المعادية للإسلام تعزز شكوكنا ومخاوفنا بأن الهجوم على الإسلام له طابع ديني وليس سياسي فقط! إنه يذكرنا بالحروب الصليبية ولكن بطبعة جديدة منقحة؟ ويعزز هذه الشكوك وصف الرئيس بوش "الحرب على الإرهاب" بعد أحداث 11 سبتمبر بأنها" حرب صليبية"! وبررها الإعلام الأمريكي بأنها" زلة لسان" فقبلناها على مضض رغم عدم قناعتنا بزلات رؤساء الدول الكبرى. لكن وزير الخارجية آنذاك ( كولن باول ) أعاد الكرة إلى ملعبها بإطلاق وصف" الحرب الصليبية" مرة اخرى. من الجدير بالذكر أن الطائرات والدبابات الأمريكية التي شاركت في غزو العراق كتب عليها عبارات مأخوذة من الأنجيل منها رسالة بولس6/13" من أجل ذلك إحملوا سلاح الله الكامل لكي تستطيعوا المقاومة في اليوم الشرير". و رسالة يوشع /9 "أما أمرتك؟ تشدد وتشجع. لا تَرهب ولا ترتعب لأن الرب إلهك معك حيثما تذهب". والعشرات غيرها. يوم 25/ تموز الجاري خرجنا في مسيرة تشييع رمزية في أحدى ضواحي محافظة تروندلاك فمصيبة النرويج هي مصيبتنا جميعا بل هي كارثة إنسانية. كنا نحمل جميعا أكاليل من الزهور تفوح منها عطور المحبة للنرويج حكومة وشعبا، ومشاعلا تعكس النيران المتأججة في قلوبنا جراء المأساة المروعة، وشموعا تضي لنا درب السلام والتضامن والأخاء. كنا من جنسيات متعددة ووجوه وألوان مختلفة لكن بقلوب موحدة المشاعر تؤمن بالحب والأمن. كنا نحمل بخشوع رسالة واحدة هي" إننا نرفض الإرهاب وكل مبرراته". بين جمهرة الناس كانت إستاذتي الفاضلة حاضرة في مراسم التشييع. لربما قرأت في شفاهي الصامته مرة أخرى بإن ( الإرهاب لا هوية له ولادين ولا وطن ولا جنس ولا لون ) .