كما أن الاتفاقية الأمنية التي تم توقيعها لتعطي للشعب العراقي جرعة قوية من مخدر سياسي ، بشأن موعد انسحاب القوات الأمريكية من العراق ، لم تأخذ صفة معاهدة لتحاشي عرضها على الكونغرس الأمريكي كي لا تتعرض هناك لامتحان عسير بين القبول او الرفض أو كشف بنودها السرية ، فإن هناك محاولة من قبل حكومة المالكي لتوقيع مذكرة تفاهم بين الحكومتين العراقية والأمريكية لتمديد بقاء جزء من القوات الأمريكية بعد الحادي والثلاثين من كانون الأول / ديسمبر عام 2011 ، بدلا من توقيع اتفاقية جديدة توجب عرضها على مجلس النواب مع أننا لا نتوقع من المجلس خيرا أكثر مما نتوقعه من الحكومة ، فكلاهما في مركب واحد وإن كان كل فريق يوجه مجذافه باتجاه مغاير للفرقاء الآخرين ، ومع ذلك فإن صفقات الصمت المتبادل تبدو وكأنها سيدة المواقف في عراق الاحتلال الأمريكي . لقد تم تمرير الاتفاقية الأمنية التي ما تزال سارية حتى الآن بسلسلة من الألاعيب السياسية التي مورست على نطاق واسع من جميع أطراف المشهد السياسي ، وخاصة ما يتعلق بالالتفاف على موضوع الاستفتاء العام عليها من قبل الشعب العراقي وهو ما لم يحصل والذي اشترط بدء سريانها على نتائجه ، لأن الحكومة تعي جيدا أن شعبا تعرض لهذا التدمير الشامل من قبل القوات التي يراد التمديد لها ، لا يمكن أن يعطي تأييده لبقائها يوما واحدا مهما كانت المبررات المطروحة أو التي تحاول أطراف العملية السياسية تسويقها . وعلى الرغم من وجود نصوص في الاتفاقية تلزم القوات الأمريكية بتوقيتات محددة بإعادة انتشارها في المدن العراقية ، إلا أن أيا من تلك التوقيتات لم تحترم من قبلها بل واصلت خرقها ما تعهدت به وشهدت مدن عراقية كثيرة دوريات آلية للقوات الأمريكية في شوارعها وعمليات دهم وترويع للمدنيين وانتهاكات لأمن العراقيين بدعاوى كاذبة ، ولم تجرؤ حكومة المالكي ولا مجلس النواب على مطالبتها بأن تفي بتعهداتها وتتوقف عن هذه الاستفزازات ، مما يلقي بظلال قاتمة على جدية الولايات المتحدة وحتى تحت رئاسة باراك أوباما بتنفيذ وعوده الانتخابية بسحب قوات بلاده من العراق بعد وقت قصير من تسلمه للرئاسة وعزز تلك التعهدات في خطاب تنصيبه رئيسا لبلاده ، ولكنه تخلى في وقت قياسي في سرعته عن كل ما ألزم به نفسه وبلاده وأبقى على جانب كبير من القوات الأمريكية في العراق ولم يحاول إعطاء تفسير منطقي واحد لذلك ، فالاستراتيجية الأمريكية لا يرسمها الرؤساء ، بل أنهم وعلى أهمية مناصبهم لا يمتلكون كل مفاتيح تنفيذها ، ولهذا شفطت ماكنة المصالح الأمريكية خيالات ( جرأة الأمل ) التي وعد بها أوباما شعوب العالم ، وربما نجح أوباما في تلميع صورة بلاده قليلا على مستوى الرأي العام العالمي لا غير ، بعد سنوات طويلة كان فيها الأمريكي هو المطلوب الأول في كل مكان ، ولم تجد كل مراكز الدراسات الاستراتيجية الأمريكية جوابا مقنعا لسؤال ظل يطرح بقوة ، لماذا يحظى الأمريكي بأكبر قدر من الكراهية في كل مكان ؟ ولأن أمريكا ليست جمعية خيرية توزع الحرية على شعوب العالم بالقسطاس المستقيم ، ولأن أمريكا ليست منظمة إنسانية تراقب مدى التزام الحكومات البوليسية بمبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، فإنها وكلما وضع أحد مسؤوليها ومخططي سياساتها الكبار رأسه على الوسادة ، يوجه لنفسه سؤالا مريرا ، لماذا ذهبنا إلى العراق وخسرنا كل هؤلاء الجنود والمعدات والأموال ؟ وهل كنا بهذه السذاجة حينما اختلقنا كل تلك الاكاذيب من أجل الحصول على إذن احتلال العراق ؟ ولم نحصل عليه ومع ذلك جازفنا بكل شيء لأن الصيد ثمين ويستحق المجازفة ويستحق تقديم النذور والأضاحي ، والتي ستعوض في وقت قصير ، فالعراق ليس الصومال وليس أفغانستان وليس فيتنام ، إنه العراق بكل ما يرمز إليه من معان وما يزخر به من ثراء في كل شيء ! لقد أتعبت هذه الأفكار صانعي القرار في الولايات المتحدة كثيرا ، ولهذا أعدوا له عدة مبكرة حينما أقاموا فيه أكبر سفارة لهم في أي بلد آخر ، فإذا قيست البلدان بحجم سفارات الدول الكبرى فيها ، فالعراق يحتل المرتبة الأولى حتى إذا كان أهله يجهلون قيمة بلدهم ، ولكن لماذا هذه السفارة وبهذا الحجم الخيالي ؟ وهل نسي الأمريكيون تجاربهم هم بالذات مع دول العالم وماذا حل بتلك السفرات ؟ السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء ببغداد تستوعب حاليا أكثر من ألفي موظف بقليل ، واستباقا لموعد الانسحاب المقرر نهاية العالم الحالي ، أعلن عن أن العاملين في تلك السفارة سيرتفع ليصل إلى أكثر من ستة عشر ألف موظف من مختلف التخصصات بمن فيهم قوات عسكرية ، ولا أحد يعرف قبل اليوم سفارة استوعبت هذا العدد الكبير من السكان ، وهذا بالطبع غير الآلاف من العاملين في القنصليات الأمريكية المنتشرة في العديد من المدن العراقية ، ولا أحد يعرف أيضا ما إذا كان من حق حكومة المالكي أن تطالب بحق المعاملة بالمثل استنادا إلى الاتفاقيات الدولية المنظمة للعلاقات الدبلوماسية بين الدول ، وإذا حصلت هذه الفرضية فلا أحد يعرف أية مشكلة ستمر بها الحكومة ، فالمحاصصة اربكت تشكيل الحكومة لحوالي عام ، وحتى اليوم لم يتم ملأ الفراغات في ثلاث حقائب وزارية شاغرة ، ترى كم سيستغرق ملأ شواغر بستة عشر ألف . والسفارة الأمريكية طلبت تخصيص ستة مليارات و200 مليون دولار ميزانية سنوية لها ، وهذا الرقم يفوق ميزانيات دول لها علم ورئيس وحكومة وبرلمان وجيش ومندوب في الأمم المتحدة ، فهل ستكون هذه السفارة محمية طبيعية لها حقوق تفوق الحصانات التي وفرتها اتفاقية فينا ؟ تقول العلوم العسكرية إن تركز القوة في مكان واحد يمكن أن يسبب خسائر أكبر في حال التعرض لأي هجوم ، ولا أظن أن الأمريكان أهملوا هذا الجانب ، ولهذا أرادوا تعويض وجودهم العسكري بموجب الاتفاقية الأمنية بوجود يستند على اتفاقية فينا للعمل الدبلوماسي ، ولكن العاملين في السفارة مدججون بالسلاح ، ليس دفاعا عن أنفسهم وإنما دفاعا عن المهمة السرية الموكلة إليهم ، وهي عملية التفاف على إرادة الشعب العراقي الرافض للوجود الأمريكي وبأي حجم أو بأي تكييف أو صورة .