كان لي رفيق مسئول يزورني بين فترة وأخرى , ويسألني إن كان عندي تحليل للأحداث التي سبقت عام 2003 على ذوقه, أي بما يرضيه ولا يثير حنقه .وهكذا هم الحكام العرب ـ كما يبدو ـ لا يسمعون إلا ما يروقهم , ولا يزعجهم , بدليل أن زين العابدين بن علي وحسني مبارك أعلنا أنهما خدعا من الروايات التي كانا يسمعانها ممن حولهم . لا نذهب بعيدا إذا قلنا أن معظم الحكام العرب لم يقرؤوا التاريخ قراءة ناقدة لاستخراج الدروس والعبر ,بل وصل اهمالهم في معرفة حقائق الأمور, ومعرفة أسباب النكبات والنكسات والهزائم العسكرية والسياسية والاقتصادية التي أبتلي بها أبناء الأمة العربية , وإذا ما بادرت مؤسسة بحثية ونظمت ندوة أو حلقة نقاشية حول قضية ما, فلا تكترث الحكومات للتوصيات أو الاقتراحات التي تخرج بها.أما إذا ما شكلت لجنة حكومية فإن قراراتها تصبح بمثابة الدستور لا يجوز نقدها أو الاعتراض عليها. ولنا في سلوك حكوماتنا خير دليل, فكم من الندوات والحلقات النقاشية عقدتها مراكز البحوث حول قانون الانتخاب وقانون الأحزاب, لكن توصياتها واقتراحاتها ظلت حبرا على ورق وطي الأدراج, إلى أن هبت الانتفاضات العربية , وهبت رياح التغيير , وتشكلت لجنة الحوار الوطني , ولجنة الدستور , التي نأمل أن ترى قراراتهما النور والتطبيق العملي على أرض الواقع . ولا نذهب بعيداً فإن الحكومات العربية لم تكلف نفسها دراسة الهزائم الكبرى التي منيت بها في إطار الأمن القومي.. في حين أن الدول الأخرى تدرس كل الظواهر التي تبرز في مسيرة عملها. وعلى سبيل المثال أجرت وزارة الدفاع الأمريكية ( البنتاغون) دراسة حول ظاهرة الانتحار في صفوف القوات المسلحة العاملة في العراق وفي أفغانستان. قبل أيام اجتمع وزراء الخارجية العرب وأقروا انتخاب وزير خارجية مصر أمينا عاما لجامعة الدول العربية , خلفا لعمرو موسى الذي أعلن ترشيحه لرئاسة الجمهورية في مصر .وكأن مشكلة الجامعة والنظام العربي المتردي في أمينها العام , ولم يكلف الوزراء أنفسهم البحث في أسباب تعثر العمل العربي المشترك . إن الأمر المحزن هو أن قرارات السلطة الحاكمة تجد من يصفق لها سواء كانت خاطئة أم صحيحة, أي أن " جوق " الهتيفة أو المصفقين يبدون من الحماسة ما يؤشر للرأي العام أن هذه القرارات منزلة لا يعتريها الشك أو الخطأ . حتى صارت تلك الظاهرة "النفاقية" مقياس الولاء والحب والانتماء, وما أن تسقط الحكومة أو النظام السياسي بالكامل حتى يظهر فريق آخر يدين كل ما قامت به الحكومة السابقة أو النظام السابق,حتى انك لا تجد حسنة واحدة في سجل تلك الحكومة السابقة, وهكذا يتكرر المشهد حكومة بعد حكومة, ونظاما بعد نظام, حتى صارت لعبة الحكم مسرحية مسلية لمجموعات " الهتيفة" حتى تسدل الستارة ويبدأ المشهد الآخر. ويبدو أن الماضي يلاحق الشخص حتى لو تاب وكّفر عن نفسه. وتظل النقاط السوداء في سجله ولو حاول مسحها بكل مواد التنظيف المشهورة . ما هي أسباب هذا الانحدار...? ولماذا وصلت الأوضاع إلى هذه الحال في بلادنا العربية...? استمعت إلى تعليق لرياضي أجنبي حول سبب إخفاق الرياضة العربية, فأجاب إجابة مهنية بالقول : " إن الرياضة العربية يتحكم بها سياسيون لا رياضيين". ويظل الجواب على سبب الانحدار في أوضاعنا العربية, جواباً متشعباً لا يمكن حصره في نقطة واحدة, بل هناك أسباب عدة: 1 .اعتقاد الحكام أنهم ظل الله على الأرض . أرائهم صائبة لا يعتريها الشك أو الخطأ . وما على الآخرين إلا القبول والرضوخ طوعا أو كرها .2 . في ضؤ هذا الاعتقاد فليس من حق الآخرين مشاركتهم الحكم . بل عليهم التصفيق للحاكم الرمز الذي لا ينطق إلا الحق 3 .اعتقادهم أن القوة العسكرية والمالية هي الأساس في فرض النفوذ والهيمنة. ولهذا واجه الحكام العرب انتفاضة شعبهم بالقوة والعنف , وليس بالحوار .4 . إهمال البحث العلمي وعدم القدرة على رصد المعلومات عن الآخر, فهذا الموضوع كتبنا عنه الكثير, فالجامعات المعنية بالبحث لا ترصد للبحث العلمي إلا نسبة قليلة جداً مما ترصده للضيافة والحفلات والاكراميات والسفر والسيارات وغيرها. وإذا وجد مركز بحثي فإنه يهتم بقضايا ثانوية من أجل أرضاء صاحب القرار في السلطة, أي أنها تقول في بحوثها الاستقصائية ما يرضي المسئول. 5 . تغول السلطة على أبناء الشعب وعلى النخب العلمية والسياسية , فلا مكان لصاحب رأي في أروقة السلطة, ومما عقّد الأمر هو اعتقاد الحكام بضرورة توريث السلطة لأبنائهم , وهو ما أثار أبناء الشعب ضد فكرة التوريث للأبناء . والأمر المثير أيضاً هو أسلوب المقارنة بين الأنظمة والحكومات, فهذا يقول أننا أحسن حالا من النظام الآخر السيئ, ولكن هل يجوز المقارنة بين شرير وأخر . أو بين سارق واخر, أو بين مرتش واخر أم أن المقارنة تكون ما بين الأخيار والأشرار? 6 . أما العلة الأكثر إيذاء للمواطن هي سوء توزيع الثروة, وعدم العدالة في توزيعها, ففي كل أقطارنا العربية الغنية والفقيرة, ينقسم المجتمع ما بين الأغنياء والفقراء, فإما غنى فاحش وإما فقر مدقع. ولو كانت الحكومات والأنظمة عادلة وتؤمن بالشرع الإسلامي, وتطبقه, لما انقسم المجتمع بهذا الشكل الحاد الذي أفرز ظواهر خطيرة وصلت حد الجريمة والإرهاب, ولما وجد هذا العدد الكبير من الناس أميين وفقراء يتعاطون المخدرات ويسيرون في درب الرذيلة واللا أخلاق. ولو كانت الحكومات نظيفة وغير فاسدة مالياً وإداريا, لما طالبت الجماهير بالإصلاح , ومن ثم مطالبتها بالتغير وإسقاط الأنظمة والحكام ومحاسبتهم أمام القضاء . 7 . والسبب الخطير الآخر هو الاحتلال الأجنبي المادي والمعنوي, فالأجنبي موجود في بلادنا إما على شكل قواعد عسكرية أو خبراء أو مشورة, أو احتلال معنوي لعقول رجال السلطة, بحيث ينفذون ما يريده الأجنبي من دون تدخل. خلاصة القول إن الإرادة المفقودة هي اكبر علة في سلوك الأنظمة والحكومات العربية, ومهما نقول عن الاستقلال والسيادة , فإنه يظل مشكوكاً فيه ما دامت قرارات الانظمة غير سيادية بالكامل.