لم يسجل التاريخ احتلالا استيطانيا كالذي حصل لأرض العرب في فلسطين, ولم يشهد سفر البشرية كلها تهجيرا شاملا لسكان بلد كالذي جرى لشعب فلسطين، وبالمقابل, فان التضحيات التي قدمها الفلسطينيون وأبناء الأمة العربية هي تضحيات جسيمة، ومن العيار والنمط الذي يجعل للعرب في فلسطين استحقاقين ثابتين: الأول: استحقاق تحرير فلسطين من البحر إلى النهر لأنها وطن وارض عربية مغتصبة من قبل الصهيونية وبدعم من قوى العدوان على العرب وعودة الشعب اللاجئ إلى وطنه. الثاني: استحقاق الثمن الباهظ الذي دفعه شعب فلسطين والعرب في مواجهة الغزو والاستيطان والعدوانية الصهيونية وهو ثمن يرتبط بالآلاف المؤلفة من الشهداء وأنهار الدم التي سالت لتروي الأرض المغتصبة والوطن المنهوب, ومعاناة وأوجاع شعب تقع بين فقدان الأرض والوطن وبين التهجير واللجوء واستلاب كل حق انساني معروف ومتداول بين البشرية في إرثها الماضي وفي حياتها المدنية المعاصرة. إذن, تحرير فلسطين هدف كان وسيظل هدفا مركزيا لأمة العرب وقواها التحررية الثائرة عموما ولشعب فلسطين بشكل خاص. وتحرير فلسطين سيبقى وبغض النظر عن أنواع المؤامرات التي تحاك والمحاولات التي تجري علنا من قوى الاستكبار والظلم سيبقى محورا مفصليا في حياة العرب. ومع ثبات حق الأمة بتحرير فلسطين مهما طال الزمن ومهما غلت التضحيات فان هدف التحرير لا يمكن أن يتم إلا بعوامله وأدواته المعروفة، ومن أهمها ثبات ووحدة القوى المقاتلة التي تتصدى لهذا الهدف التاريخي, وثبات ووحدة القوى السياسية وركائزها الاجتماعية والثقافية والإعلامية التي تتعاطى مع شعارات التحرير والعودة وتناضل من اجلها دون كلل ولا ملل وبإصرار مستديم. لقد كان لانطلاق المقاومة الفلسطينية المسلحة أواخر الستينات من القرن الماضي زخم عظيم للانتقال بهدف التحرير إلى مراحل التنفيذ. وكان لمنجزات منظمة التحرير الفلسطينية البطولية بمختلف فصائلها الوطنية والقومية والإسلامية دور بارز وأساسي في نقل حركة أبناء فلسطين الإنسانية الجهادية وحركة العرب الساندة لهم إلى مواقع مؤثرة على خارطة العالم ودوله ومنظماته المختلفة. ورغم إن من المحال أن نحيط هنا بكل انجازات منظمة التحرير الفلسطينية على طريق الجهاد والكفاح المسلح لاستعادة حق حقوق شعب وأمة اغتصبت على رؤوس الإشهاد غير إن الأمر الأبرز والأوضح والأهم من بين ما أنجز هو رسم طريق التحرير والإعلان عن المحنة والقضية والمعضلة الفلسطينية على كل أصعدة العالم الدولية والشعبية وجعلها مادة حيوية حاضرة على كل الموائد. ومع تصاعد الآمال بقدرات منظمة التحرير الفلسطينية العسكرية والسياسية وتمكنها من إحراج الأنظمة العربية لزجها بهذا القدر أو ذاك في مسارات الدفاع عن القضية الفلسطينية وخلق الاستقطابات الدولية حول حق العودة والتحرير, ومع تصاعد الالتفاف وتعدد وسائل الدعم والإسناد الشعبي العربي وسعته, دخلت وسائل التخريب والعبث السياسي والمخابراتي للصهيونية وسواندها لتحجم تدريجيا من مد الثورة الفلسطينية العربية ومن إعصارها الواعد بتقويض ركائز الاحتلال الاستيطاني المجرم. تعددت أوجه المؤامرات ومصادرها غير إن أخطر ما واجهه شعب فلسطين وحركته الجهادية التحررية، هو دخول بعض الأنظمة العربية في اتفاقات العار والاستسلام مع الكيان الصهيوني أولا والانشقاق المؤسف في منظمة التحرير الفلسطينية بعد التعاطي مع حيثيات التسوية الاستسلامية و تشكيل ما سمي بالسلطة الفلسطينية صارت مع الانشقاق سلطتين واحدة لفتح والأخرى لحماس. أربع سنوات عجاف لهذا التشظي الموجع والمرير ضاعت فيه دماء طاهرة ونزفت جراح غائرة وانقسمت إرادة واحدة لا يجوز أبدا أن تنقسم وشرذمت وهدرت طاقات شعب واحد ومن وراءه أمة واحدة لا يجوز أبدا أن تتشرذم وفتحت نوافذ للاختراق من أعداء قريبين وبعيدين, اعتباريين وماديين, لا يجوز أبدا أن تنفتح. ووصل حال بعض إخوتنا وأشقاءنا من الفلسطينيين والعرب حد نسيان الصراع المركزي أو وضعه في الخلف وصار جل همهم التحشيد الأستقطابي المدمر وتكريس هذا الاستقطاب بين فتح من جهة وحماس من جهة أخرى حتى وصل الحال إلى تشكيل مواقف عداء لمن يقول لا ويستنكر هذا التشظي وعمليات الاستقطاب و التحشيد والتعبئة له ولمن يدينه ويجرمه حبا بفلسطين وشعبها. في لقاء خاطف حصل بالصدفة المحضة مع الأخ خالد مشعل في أحد مساجد دمشق في شهر رمضان الماضي وكان بصحبتي عدد من الإخوة العراقيين, قبضت على كفه بيدي وقلت له (لن نغفر لكم انقسامكم, انتم بشخوصكم لا تهموننا، بل ما يهمنا هو تحرير فلسطين وهو هدف دونه شرف الأمة ووجودها الحاضر والقادم وهو أمانة بأعناقكم فاعبروا محنة الانقسام)، ولحظة تمت المصالحة بين الأشقاء في القاهرة راود كل شرفاء الأمة إحساس مفعم هو أن خط التحرير قد عاد لتعبد مسالكه من جديد. خط تعبئة طاقات شعب فلسطين والعرب عاد من جديد ليحرك كوامن ثورة التحرير والعودة. خط الكفاح قد عاد ليفرض حضوره على طاولات العرب والعجم على السواء. الأمر المفرح بدلالاته والاستنتاجات المبنية عليه أيضا هو أن تكون قاهرة ما بعد الثورة هي التي احتضنت المصالحة وهو وعد آخر تتطلع إليه عيون الملايين من العرب بمضامين عودة مصر الثورة إلى دورها العربي الطليعي وعودتها إلى التصدي لواجبات إسناد قضايا الأمة المصيرية. وعلى هذا, فإننا نبارك المصالحة ونريد لها أن تتعمق وتتجذر وتضع الخلاف ونتائجه في دهاليز التاريخ المظلم السحيق الذي لا عودة له بعون الله، وبصدق إرادة الغيارى. ومباركتنا تنطلق من إرادة وفعل الجهاد الأسطوري الذي تسطره مقاومة العراق الباسلة التي أنتجت تاريخا مشرقا من الانجازات والعطاء بتضحيات جسيمة وبمواقف نضالية خالدة لحزبنا المجاهد المقاتل حزب البعث العربي الاشتراكي بشكل خاص. إن حزبنا المناضل المقاتل, حزب البعث العربي الاشتراكي, المعروف بمواقفه وفكره وعقيدته ورسالته القومية التحررية هو حزب قضية فلسطين لأنه حزب الوحدة الذي ربط بثبات بين تحرير فلسطين وعودة كل أهلها المهجرين وبين أهداف الأمة في الوحدة والتحرر والعدل. وقدم البعث ما قدم من تضحيات ودعم وإسناد كحزب مجاهد أو عبر المواقف التي تبنتها سلطة الحزب في العراق وإسنادها بالمال والرجال والأعلام والجهد الدبلوماسي مع الدول وعبر المنظمات العالمية الرسمية والشعبية, يؤكد دائما وأبدا على أن وحدة فصائل الجهاد والمقاومة هي الطريق الوحيد لتحقيق أهداف شعبنا العربي الفلسطيني ومَن يسانده من أبناء الأمتين العربية والإسلامية. وكان لموقف البعث الجهادي عبر تشكيلاته المسلحة في العراق المحتل دور لم تغب عنه أبدا قضية فلسطين، بل ربط بثبات بين دحر القوة الامبريالية الصهيونية في العراق وبين تحرير فلسطين لان اندحار الاحتلال الأمريكي في العراق سيغير من خارطة العالم السياسية برمتها. نحن, إذن, لا نبارك فقط، بل نهنئ أنفسنا بلقاء الأخوة وبعودة الوئام والفعل المشترك لفصائل فلسطين العربية البطلة. وندعو ونعمل على أن تنبلج شمس ثورة فلسطينية _ عربية متجددة تقودها مقاومة فلسطين والعراق وكل بندقية وعقل وساعد يؤمن بتحرير الأرض وعودة الحق والإنسان. والله اكبر.