من نافلة القول أن أمريكا متخصّصة في فن صناعة الأعداء وكذلك العملاء. وهي بالتالي بحاجة مستمرة أما الى عدو تربّى في أحضانها واما الى عميل مخلص تدرّب وتخرّج من مدارسها الراقية في فنون العمالة. لكن لا أعداء أمريكا ولا عملاءها يعون أو يدركون أن شهر العسل مع هذه الدولة المتجبرة يمكن أن يستمر حتى نهايته الطبيعية. فهي لا تراعي حرمة صداقة ولا أخلاق مهنة ولا إلتزام بقانون أو قاعدة أو شريعة , الى درجة أن معظم أصداقها وعملائها يتركون ميدان العمل والخدمة بدون مرتّب تقاعدي , وينتهي بهم المطاف في الغالب بشكل مأساوي الى مزبلة التاريخ , ولكن العملاء , كما كتبت قبل عدة أشهر , كالشعراء لهم طبقات ودرجات. وهم أيضا يتبعهم الغاوون , وإن إختلفت أسباب وأهداف الغواية , وفي كل جهاز مخابرات يهيمون ويسرحون. وأحيانا تجد أن العميل , خصوصا إذا كان بدرجة رئيس دولة كجلال الطلباني مثلا , يتفانى , أكثر من العبد المطيع , حبّا وهياما بسيّده , لا بيغي شيئا سوى رضا ذلك السيّد ونيل القليل القليل من عطفه ولطفه. وفي حالات كثيرة شهدتها هذه السنوات يتحوّل الحب العنيف والعلاقة الحميمية ببين طرفين , وإن كانا غير متكافئين في كل شيء , الى عداء قاتل وخصومة مستمرة. ونهاية الشيخ أسامة بن لادن , رغم الشكوك والغموض وتضارب الأنباء التي تحيط بها , لا تختلف كثيرا عمّا سبقه من أصدقاء أعداء أمريكا الذين قدّموا لها خدمات جليلة في أكثر من مناسبة. وعلينا أى لا ننسى هنا مشاركة أتباع أسامة بن لادن في الحرب ضد الاتحاد السوفيتي السابق , ووقوف معظم الدول العربية والاسلامية , التي تناصب تنظيم "القاعدة" اليوم العداء , معه في تلك الحرب. وما يغيب عن بال الكثير هوأن زواج المصلحة لا يمكن أن يدوم أبدا , خصوصا مع دولة مثل أمريكا تتعامل مع الآخرين وفق مصالحها الخاصة فقط. وعلاقتها بمن ينخرط في مشاريعها وخططها علاقة وظيفية بحتة , محدّدة بمكان وزمان وربراتب أيضا كأي عقد عمل , غير قابل للتجديد الا في حالات نادرة جدا! إختلفت الأراء وقد تختلف في موضوع"القاعدة "وأسامة بن لادن. فالبعض يعتبره مجاهدا والبعض الأخر عربي مسلم وآخرون يقولون أنه مات شهيدا ..ألخ. لكن الحقائق على الأرض تقول أن حجم الخسائر المادية والبشرية والمعنوية التي لحقت بالعرب والمسلمين بسبب أعمال "القاعدة" وشيخها إبن لادن لا تعد ولا تُحصى. فالأضرار التي أصابت الشعوب العربية والاسلامية فاقت بكثير ما يعتبره البعض "إنتصارات" أو إنجازات لتنظيم "القاعدة" ضد الأعداء. ولو أجرينا جردا بسيطا في حساب الخسائر البشرية فقط لوجدنا أن مقابل كل مواطن أمريكي أو أوروبي عادي يُقتل , يموت ويُصاب مئات المواطنين العرب والمسلمين الأبرياء وتدمّر ممتلكاتهم ومصادر رزقهم , وغالبيتهم العظمى في دول عربية أو إسلامية. وأصبح المسلم والعربي , بغض النظر عن مكانته الاجتماعية أو مركزه الوظيفي أو هويته الوطنية , هدفا لعملية إنتحارية أو لسيارة مفخّخخة , كما يحصل اليوم في العراق المحتل مثلا , رغم قناعتنا التامة بان الكثير من الأعمال الارهابية التي تقع في العراق"الجديد" والتي يروح ضحيتها العشرات من الأبرياء هي من صنع حكومات الاحتلال في المنطقة الخضراء والميليشيات التابعة لها ولجارة السوء إيران. وبديهي عندما يختلط الحابل بالنابل , كما هي الحال في أكثر من دولة عربية , يصعب عاليك التمييز بين أرهاب وأرهاب , طالما أن الضحية هو نفسه , أي المواطن العربي أو المسلم. من البديهي إن نهاية أسامة بن لادن , حتى في الكيفية والسيناريو والاخراج الأمريكي المعلن , سوف يكون لها تأثير سلبي ملموس على أتباعه ومّن يعتبرونه "مجاهدا" ضد الكفار. فالننظيمات التي تكون عادة مرتبطة باسم وتاريخ وسلوكيات وكاريزما شخص ما تفقد بريقها شيئا فشيئا بعد أفول نجم مؤسسها أو قائدها أو رمزها , خصوصا في مراحل معيّنة من التاريخ. ولا شك إن ثورات الشعوب العربية الحالية وزوال حاجز الخوف وإنفتاح أفق , ولو محدود ومتواضع من الحرية , سوف يضع أسامة بن لادن وتنظيم "القاعدة" في الصفوف الخلفية ولو بعد حين , حتى وإن حصلت , كما يتوقّع أو يتمنّى البعض , أعمال إنتقامية هنا وهناك من قبل أتباعه ومريديه. لقد سأم الناس هذا النوع من الجهاد العشوائي الذي يتنافي مع قيم وأخلاق وتاريخ المسلمين وتقاليدهم خصوصا في علاقتهم مع الآخر , المختلف معهم دينيا أو عرقيا أو مذهبيا. ثم أن تطوّر الوعي البشري والثقافة الانسانية ووسائل الاتصال والتواصل جعلت الغالبية العظمى من البشر تنأى بنفسها عن أي فكر أو سلوك يتّسم بالتطرف والتزمّت والانغلاق ومعادات الآخرين لمجرد كونهم ينتمون ألى دول أو شعوب أخرى. فالدين الاسلامي , وعلى مر العصور والأزمنة , لم يكن أبدا في حالة عداء أو إقصاء أو خصومة مع غير المسلم. ولولا هذا التسامح ونُبل الأخلاق وسموّ القيم والأعراف لدى المسلمين لما بقيَ بين ظهرانينا , حتى يومنا هذا , مسيحيون أو يهود أو صابئة أو غيرهم , يمارسون عباداتهم وتقاليدهم في أمان وإطمئنان. والمرجو بطبيعة الحال هو ن تكون نهاية الشيخ أسامة بن لادن , رغم كونها نهاية أمريكية الأخراج والسيناريو والتمثيل , حافزا لأتباعه ومناصريه على التخلّص من العشوائية في جهادهم الذي هو مشروع بكل تأكيد , والابتعاد قدر الامكان عن حرق الأخضر واليابس. فليس عدوا كل من إختلف معنا في ر}اي أو جنس أو دين أو طائفة أو عنصر. ويُفترض أن تكون سمعة الدين الاسلامي والمسلمين جميعا , وفي أي بلد كان , أهمّ بكثير من أي إنجاز آني أو فعل مؤقت حتى وإن كان له تأثير إعلامي مدوّي. mkhalaf@alice.it