ما الذي حدث ويحدث في سورية؟ هل التحق الشارع السوري بالشارع العربي الثائر؟ أم ان الآخرين قد رموا منجنيقهم على البيدر السوري، فاضرموا النار فيه كما زعمت السلطات؟ وهل كان الوضع في سورية مختلفا عن اوضاع الاقطار التي حصلت فيها الثورة، كي نطلب من شباب سورية الصمت، وان لا يلتحقوا باشقائهم؟ ام ان الالتهاب السياسي والاقتصادي والاخلاقي هو نفسه في جميع الاقطار العربية؟ وهل التحركات الجارية هي بفعل قوى أبعد ما تكون عن المصلحة الوطنية العليا؟ ام ان النظام هو الذي اتهمها بذلك؟ اسئلة كثيرة وعلامات استفهام كبرى تندلع هذه الايام في اذهان السوريين من حكام ومحكومين، كما هي التي لدينا نحن العرب والتي ما زالت تتوالد في أذهاننا، يوما بعد يوم منذ اندلاع التظاهرات في الخامس عشر من شهر آذار/مارس الماضي. فقد نصنّف بأننا مع السلطة في سورية لو قلنا بأنها قد باشرت الاصلاحات، واتخذت خطوات جادة في هذا الطريق من خلال الغاء ملف الاعتقال السياسي، ووقف العمل بقوانين محكمة أمن الدولة، وحرية تشكيل الاحزاب، والغاء قانون الطوارئ الذي طبق منذ عام 1963، والافراج عن المعتقلين، وهو اعتراف واضح من قبل السلطة السياسية، بان الوضع السوري هو فعلا بحاجة ماسة للاصلاح، وان ما طلبته الجماهير المتظاهرة لم يكن ترفا بل كان حقا مغبونا منذ عقود من الزمن، وان على المتظاهرين ان يعوا ان ما تراكم منذ عقود لا يمكن ان تظهر نتائج إزالته في لحظة. لكن السلطة والمؤيدين لها قد يعتبروننا في صف المتظاهرين أو من يسمونهم (المعارضة)، لو قلنا بان هذه الاجراءات سوف تبقى حبرا على ورق، ان لم يرافقها التزام واضح بالتنفيذ، مع سلوك مدرك لمعنى ضرورة التغيير، وابتعاد تام عن القيام بالاصلاحات تحت وابل الرصاص الموجه نحو صدور المحتجين، لأنه اذا كان يمزق الصدور العارية للابرياء فانه يمزق قبلها صورة النظام وقادته أيضا. فالإصلاح لا يمكن ان يستقيم في لحظة الهدم، وان وجود اطراف مارقة تسعى لزعزعة الوضع العام، لا يعطي المبرر للسلطة كي تتعامل مع الجميع على انهم مارقون. فالتظاهرات قد تضم المندسين لاغراض خارجية وبتمويلات أمريكية كما أعلنتها وثائق ويكيليكس، كما تضم المستفيد من عملية الارباك لاهداف شخصية بحتة، لكنها يقينا تضم غالبية وطنية شريفة ومخلصة، تسعى الى وطن أكثر رفعة وعزة كي يرتفع البناء بايدي الجميع حكاما ومحكومين. ان الابواق التي تنفخ في اذن السلطة وتصور لها التنازل امام المطالب الشعبية، باعتباره انتحارا سياسيا لأن سقف المطالب سوف يرتفع، منطلقين من تجربتي الثورتين التونسية والمصرية، انما هي نفس الابواق التي أوصلت الحال على ماهو عليه، وهي مغرضة وذات اجندات في الضد من مصلحة النظام والشعب معا، حتى لو كان مصدرها من بين صفوف الحزب والسلطة. فقد تتكلس الكثير من المفاصل القيادية في الحكم، وتصبح غير قابلة للاصلاح والتطوير بمرور الزمن، خاصة عندما تبلغ التجربة سنوات طويلة من العمر، حتى يبدو لها ان أي حديث عن التغيير والتطوير او حتى الاصلاح انما هو استهداف شخصي لها، لذلك تبدأ عملية الدفاع الغريزي عن وجودها الرمزي في الحزب والسلطة لاسباب شخصية، لانها تعلم بأن الآخرين يعرفون ممارساتها الفاسدة، وقد تكون ضحية مباشرة لأية عملية تغيير قادم، او لان الرمزية الشخصية التي تعودت عليها منذ عقود طويلة أصبحت جزءا لا يتجزأ من كيانها ووجودها، حتى بات لديها الموقع الحزبي او الحكومي يفوق مقتضيات المصلحة العامة. كما ان الايعاز بعدم التغيير قد يكون رسالة مغرضة من قوى دولية لتوريط الحاكم السوري بالعناد في وجه مطالبات التغيير، مما يصعد من الازمة والمواجهة حتى تبلغ طريق الاعودة، والهدف هو الاجهاز على السلطة السياسية الحاكمة والشعب معا، من خلال اتخاذ تلك القوى الدولية مواقف مترددة او متذبذبة بالقياس الى مواقفها من حالات اخرى مشابهة، مما يوحي للنظام السياسي القائم في سورية، بأن أهميته اكثر من الاخرين للمصالح الدولية، وانهم في حاجة ماسة الى استمرار وجوده، وانه مازال يمسك باوراق ضغط مهمة تتماس مع مصالحهم. كما ان الرسالة نفسها قد يمررها حلفاء النظام من المحليين والاقليميين، كالايرانيين والاتراك وحزب الله اللبناني، وهدفهم ليس المصلحة الوطنية السورية من خلال معادلة السلطة والشعب، بل استمرار النظام والدفاع عنه في سبيل غايات واهداف تصب في مشروع تلك القوى . فالمصلحة الايرانية في دعم النظام السوري ضد عدم القيام بأية اصلاحات سياسية، هو الخوف من صعود تيارات شعبية رافضة للتحالف الاستراتيجي القائم بين سورية وايران، التي هي حريصة جدا على ابقاء سورية كاحد اضلاع المشروع الايراني الاقليمي، الذي يخدم توجهاتها في انتزاع اعتراف امريكي غربي بها كقوة اقليمية في المنطقة، ويتبعها في هذا الموقف حزب الله ايضا. ان الانظمة الوطنية الثورية الحقة هي التي من المفترض ان تكون في خندق الشعب دوما، ولكي تجدد هذه الانظمة ثوريتها ووطنيتها، التي قد تفقدها بمرور الزمن نتيجة ممارسات السلطة، فان عليها اسقاط الحاجز السلطوي القمعي الذي يفصلها عن الشعب حال اكتشافها له، او حال سماع اية اعتراضات تدلل على وجوده من قبل اية فئة او مجموعة مجتمعية قل عددها او كثر، كي لا تضيع المكاسب الوطنية والقومية التي حققتها تلك التجربة على مدى عمرها الزمني، لأن استمرار وجود هذا الحاجز وتجاهله من قبل السلطة، يتحول الى شرخ بمرور الزمن ويؤسس لحالة من انعدام الثقة المتبادلة بين الشعب والسلطة، فيصبح من الاستحالة الجلوس على طاولة حوار وطنية واحدة، يمكن ان تنقذ الوطن من التمزق والشعب من الذهاب الى المجهول. كما ان على السلطة ايا كانت شرعيتها ان تعي حقيقة اساسية واحدة، الا وهي ان الارادة الشعبية هي الغالبة والمتقدمة على كل الشرعيات الاخرى، وان تنازل النخب الحاكمة امام تلك الارادة لا يعني بالضرورة السقوط او خسارة التجربة، بل يعني البحث الوطني المخلص عن عقد اجتماعي جديد يتيح للارادات والمطالب الشعبية انطلاقة جديدة في اطار وطني شرعي جديد. ان السير باتجاه المواجهة من قبل النظام السياسي السوري مع المعارضين الوطنيين، او من قبل المعارضة ضد النظام القائم، سوف لن يجدي نفعا لاي طرف، بل انه سيقطع أي طريق للحوار وتسقط اية وسيلة لانقاذ الوضع مما هو ذاهب اليه، وان مراهنة البعض على التدويل لن يمنح الامل لاي شعب يريد الحرية وينشد الاصلاح السياسي والاقتصادي، وما زالت الامثلة والتجارب واضحة للعيان على الحدود الشرقية لسورية. فها هو الوضع العراقي الذي لم يجلب له التدويل سوى الاحتلال والكوارث الحياتية اليومية، وتلك ليبيا التي تتضرج بدماء ابنائها كل يوم بفعل الضربات الجوية التي يُقتل فيها الثوار بنيران غربية سُميت صديقة، ويُقتل فيها عناصر القذافي بنيران غربية سُميت معادية، والقاتل واحد والشعب واحد، كما ان أية مراهنة من قبل السلطة على استمرار اعتماد الحل الامني في قضية سياسية وطنية، سيقضي على كل مبادراتها مهما كانت مخلصة، ويؤدي الى وقوعها في فتنة طائفية بدأت تردد نغماتها الكثير من الاطراف المحلية والاقليمية والدولية. ان سورية ليست دولة نفطية يسيل لعاب الغرب لثروتها، لكن ذلك لا يمنع التدخل الخارجي فيها، وهي التي مارست عبر تاريخها دورا هاما اكبر بكثير من الدول النفطية، ويعرف الغرب تماما قومية شعبها الممتدة حتى النخاع، لذلك فان خوفنا عليها مبرر.