8- من المهم جداً أن يعرف ويدرك الثوري ومؤسسته الثورية التي ينتمي اليها أهمية العلاقة بين النظرية والممارسة الثورية,وعلى أساس هذا الادراك يستطيع أن يحدد المناضل الثوري موقعه النضالي والذي يتعدى دوره التأثيري و التأثري و الى الدور المهم والضروري في قوة فعله وتثوير طاقاته وطاقات الاخرين بإتجاه تحديد المرحلة النضالية التي تمر بها مؤسسته الثورية عبر النقد الجرئ والواضح والشفاف (النقد لايعني فقط تصويب الاخطاء بل يتضمن المزاوجة الثورية بكل ما يتعلق بذاتية الحركة الثورية و الموضوعية التي تحيط بها )بإتجاه تثوير الموسسة وكذلك توضيف هذه المزاوجة وبشكل علمي لخدمة المعادلة الصحيحة بين النظرية و الممارسة,وايظاً لتحديد القدرات والادوات النضالية لذلك. وهنا لابد من أن نقف قليلاً عند موضوعة النقد,فالنقد في الفكر الرأسمالي غيره عند الاشتراكين الثوريين,ففي حين يكون مفهوم النقد في المجتمع الراسمالي يهدف الى إمتصاص إنفعالات وغضب المستغلين وإضفاء جو من الديمقراطية على المجتمع الذي تتحكم به سلطة الراسمالين المستغِلة, وهو ما يطلق عليه بالنقد الليبرالي تيمناً بالديمقراطية الليبرالية,في حين يكون النقد كعملية ثورية تعني التدخل في الوقت والمكان المناسبين وبطريقة مناسبة بين الافعال وما تفرزه من نتائج وموازنتها مع المنطلقات والقيم الاساسية للثورة,وأن يكون الهدف من العملية النقدية تأكيد تحقق أوعلى الاقل تسهيل الوصول الى النتائج الايجابية وتجاوز اية نتيجة سلبية, وتكون المحصلة على مستوى النظرية إضافة جديدة وواقعية,وعلى مستوى التجربة طريقاً جديداً اكثر واقعية على مستوى التطبيق وفي نفس الوقت إحداث مقاربة مع الاسس النظرية عند إسقاطها على واقع التجربة.وفي المفاهيم الثورية لا تكتمل حقيقة النقد مالم يرتبط بممارسة النقد الذاتي والذي يعطي منتوج نضالي كامل إن صح التعبير في مسيرة الفرد أو المؤسسة النضالية,وسيكون من الرقي في الفكر إستيعاباً وفي التطبيق مرونةً لو مازجت الحركة الثورية بين النقد الثوري والليبرالي وبدون أي تحسس أو توجس من ضياع أو تخفيف في تركيز القوانين الثورية,بل أن يُحسب هذا التمازج خطوة هامة في قدرة الفكر الثوري على الانفتاح الايجابي لبعض الايجابيات في الفكر الليبرالي,وأن لا يُحسب هذا التمازج جزء من إضمحلال للثورية بل أن يُنظر له من زاوية القدرة بالاحتواء لحركة الواقع أولاً والثقة بالفكر الثوري ثانياً.إنه جزء من الانفتاحات الفكرية للحركات الثورية الرصينة والقوية على مجموع الافكار والتيارات الاخرى.إنها فعلاً تُمثل القدرة والثقة الكاملة بالفكر والتنظيم الثوري بنفسه.وإن ممارسة عمليةالنقد والنقد الذاتي متلازمتان تماماً في الحركة الثورية لما يشكلان وحدة في مجموعة الافعال الثورية وأيظاً ضماناً حقيقاً للحرية التي تعيشها المؤسسة الثورية, أوتفعل عملية النقد الايجابي (النقد والنقد الذاتي) فعله في تقوية المؤسسة الثورية(حركةً أو حزباً أوتجمعاً منظماً)بتقويتها وتهذيب قدراتها لترتفع في فعاليتها الثورية وخاصة في مسرح المواجهات فكريةً كانت أو نضالية وفي نفس الوقت تعمق وترسخ الجذور التنظيمة في أرضية الاساسات للبنية التنظيمية.وأن النتائج الايجابية لممارسة النقد الايجابي(النقد والنقد الذاتي) تظهر بشكل واضح في ملاحقة المنتمين للحركة أو الحزب الثوري للمسيرة النضالية,وهذه الملاحقة أو المتابعة تكون مَوزونة على النظرية,لان المسيرة النضالية للحركة الثورية لا تقاس بالجهود والطاقات التي تصرفها الحركة الثورية,وإنما تقاس بمجموع المردودات الايجابية التي تحصل عليها الحركة الثورية والقدرة الكمية والنوعية في التأثير على الواقع الذاتي و الموضوعي للبيئة والمساحة التي تحتضن الحركة الثورية. والعلاقة بين النظرية والممارسة تعقدت بحيث أصبح فهمها بطريقة علمية وواقعية يشكل حلقة مهمة في البناء الايديولوجي للحركة أو الحزب,و بالتالي بناء المؤسسات الثورية.وهذه العلاقة أيظاً تتحمل الكثير من الاجتهادات في نفس الوقت و الكثير من الاجتهادات ووجهات النظر,,ففي حوار بين ميشيل فوكو و جيل دلوز(1) .يقول دلوز :( ربما بدأنا نعيش بطريقة جديدة علاقات النظرية والممارسة. كنا مرة نعتقد أو نرى وندرك الممارسة بوصفها تطبيق للنظرية، بوصفها نتيجة، ومرة على العكس كمقدمة للنظرية، أو بوصفها هي ذاتها مبدعة لشكل من النظرية القادمة، بشكل عام ندرك علاقتهما في شكل من العملية الكلية أو من الصيرورة الشاملة، بمعنى أو بآخر. ربما بالنسبة لنا، فان المسالة أصبحت مطروحة بشكل مغاير. علاقات النظرية ـ الممارسة هي علاقات مجزأة ومقسمة اكثر. من جهة، إن النظرية هي دائما نظرية محلية، متعلقة بميدان محدد، ويمكن أن يكون لها تطبيق في ميدان آخر، بعيدا نسبيا. العلاقة مع التطبيق ليست أبدا علاقة تشابه.).وهذه الاراء الفلسفية الحديثة في علاقة النظرية بالممارسة قد تكون مصدراً لادراكنا كيف يفكر الاخرون في مواضيع نشترك معهم في التعامل معها ولكننا وليس بالضرورة نتفق معهم في جزء منها أو في كليتها,وفي كل الاحوال هي مفيدة في جسور حوار (وبإتجاهين ذهاباً وإياباً),نضيف ما نريده وننقد ما لا نقتنع به,وهذا يضعنا في صلب جدلية الافكار والاراء المطروحة لكي نتوسع في فهم العلاقة بين النظرية و الممارسة وخاصة نحن نعيش اليوم أجواء من الحوارات والتفاعلات بين مختلف الايديولوجيات في عالمنا والتي تفرض علنينا إلتزماً بالتعرف على فكر وطريقة تفكير الاخرين ولكننا غير ملزمين بأعتمادها كلية أو حتى جزئية ,والاهم أن نعرف كيف أن ندافع عن أرائنا وأفكارنا بالشكل والقدر الذي يجعلنا إيجابين في هذا التفاعل ولكن غير ملزمين بالاخذ بها,والايجابية الكبرى في تفاعلنا هذا,إستثمارنا لهذه الاجواء وأن نطرح ما عندنا أيظاً ففي علاقة النظرية بالممارسة والتي بالضرورة تفضي لتحديد ثورية المؤسسة الحزبية أو التجمعات وحتى الايديولوجيات يقول مؤسس البعث المفكر العربي الكبير الاستاذ ميشيل عفلق ويؤكد على أن الصفة الثورية للحركة أو الحزب الثوري مرتبطة بالنشئة الواقعية للنظرية وللمساحة الفكرية التي تتضمنها النظرية في تمثلها للواقع(اي ثورية النظرية تكون بالمقدار الذي تتعامل به مع الواقع) وأيظاً في إستمرار هذه النظرية في تعاطيها مع الواقع الذي تمثله,أي الواقعية في الانطلاقة الفكرية المبنية على قيم روحية وأخلاقية بالنسبة للواقع العربي,والتي تعبر عن الحاجة الجماهيرية للنظرية الفكرية والذي يتم فيها صياغة النظرية التنظيمية,والواقعية في المسيرة النظالية و القدرة على إستمرار الحركة الثورية في المحافظة على نقاط تماس مع حركة المجتمع بل الارتقاء بالامر بأن يُسجل نجاحاً لحساب الحركة الثورية كلما أضافت نقطة تماس جديدة,فبربطه بين الانطلاقة الاولى والاستمرارفي التلامس مع الواقع يعطينا صورة حقيقية عن العلاقة الثورية بين النظرية والممارسة,فيقول الاستاذ ميشيل عفلق:( يجب ان نتذكر دوما ما هي الميزات الروحية والخلقية التي ساهمت في دعم نضال الحزب وصموده واستمراره. منذ بداية عملنا قبل عشرين سنة، ومن الأحاديث التي قيلت في بداية تأسيس الحزب والتي كانت في منتهى البساطة، لا صناعة فيها ولا براعة، حديث عن التفكير المجرد.. لعلكم تذكرونه.. كان هذا مستمدا من واقعنا ولم يكن ترفا فكريا وإنما كان يعبر عن واقع، ويعبر عن حاجة، ويعبر عن خطر، وعن مرض كان متفشيا)(2). ويؤكد مؤسس البعث في حديث أخرعلى أن نشئة البعث الخالد كان لحاجة الامة له أي بمعنى أدق أن ضرورات الواقع الذي تعيشه الامة العربية كان سبباً رئيسياً في وجود هذا الحزب فيقول:( ان حزبنا,حزب البعث العربي الاشتراكي,خلافاً لماهو معروف عن نشأة الاحزاب والحركات,هو من صنع الامة,بمعنى ان الحزب بإشخاصه الذين أسسوه وبدأوه, لم يعملوا أكثر من وضع تصور لصيغة الحياة العربية,وفق مشروع ثوري للنهضة,تعمل الامة على اغنائه وتعميقه)(3). وأيظاً في مناسبة أُخرى يؤكد هذه الحقيقية فيقول: (ولكن "البعث العربي" ما برح يذكر وهو لن ينسى ابداً ان وجوده كله مستمد من الشعب العربي وانه لا فضل لرجاله وافراده في تكوين الفكرة وتنظيم الحركة، لانهم لم يكونوا سوى مفصحين عن حاجة عميقة في الشعب، وناقلين صادقين لرغبته التي لا يفخرون بغير السبق الى تلمسها و تلبية ندائه)(4).إن هذه الاحاديث تؤكد أن البعث صاحب نظرية فكرية و تنظيمية منبثقة من واقع الامة,فأهدافه في الوحدة والحرية والاشتراكية تمثل طموحاً جماهيرياً للامة وليست محصورة بطموحات حزب أو حركة,وما تبني الكثير من الحركات والاحزاب لهذه الاهداف كالحركة الناصرية والقوميين العرب إلا دليلاً ويقينا على إنها أهدافاً جماهيرية,وتصطف النظرية التنظيمية للبعث في بعدها القومي سواء ما يتعلق بالتنظيم القومي أو العلاقات بين فروع الحزب القومية لتشكلان الطموح الذي يضعه الحزب في مستقبل الامة وشكل العلاقة الطموحة التي ستربط أجزاء الامة.إنها العلاقة الصحيحة بين النظرية والواقع أي بين الفكر والممارسة على ضوء الحاجة القومية والطموحات القومية للشعب العربي. (1) أ_ جيل دلوز : فيلسوف فرنسي وهو من الجيل المؤسس لفضاء الاختلاق الفلسفي و صاحب أبرز دراسة فلسفية عن نيشته,إنتحر عام 1996 ومن مؤلفاته كتابه(ماهي الفلسفة) و (منطق المعنى).. ب_ ميشيل فوكو:فيلسوف فرنسي: ولد في 15 تشرين الثاني/أكتوبر من عام 1926، وتوفي في 25 حزيران/يونيو 1984) ,كان يحتل كرسياً في الكوليج دو فرانس، أطلق عليه اسم "تاريخ نظام الفكر". وقد كان لكتاباته أثر بالغ على المجال الثقافي، وقد تجاوز أثره ذلك حتى دخل ميادين العلوم الإنسانية والاجتماعية ومجالات مختلفة للبحث العلمي. (2) كلمة في الجلسة الثانية في جلسات المؤتمر القومي السادس (مناقشة مقدمة التقرير العقائدي في 12 تشرين الاول 1963 (3) كلمة في 7/4/ 1968 لمناسبة الذكرة 39 لتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي (4) كلمة في حفلة البعث الانتخابية، نشرت في جريدة "البعث" العدد 200 و201 في 20/6/1947.