يخطئ من يظن ان العملية السياسية الجارية في العراق منذ العام 2003 ولغاية الان، هي مجرد اطار لادارة الدولة ونظام الحكم، بل هي منظومة فكرية تتخطى حدود السياسة لتشمل الاقتصاد والتربية والثقافة، حتى تصل الى البنى التحتية للانسان والمجتمع، وتتلاعب بالقيم التي تربى عليها. ولعل هدفها هذا قد تقدم على بقية الاهداف الاخرى التي وضعها صانع القرار الامريكي في عمليته السياسية، لما لها من أثر بالغ في التمهيد لقيام مقبولية مجتمعية لكل المخططات الاستعمارية الاخرى. فقد تتداعى البنى التحتية المادية للدول نتيجة الكوارث والحروب، لكن الهزيمة الكبرى تحدث عندما تتداعى البنى التحتية للانسان، فتختل القيم الاخلاقية والتربوية التي آمن بها، فيصبح بلا هوية ومسلوب الارادة والفعل، حتى تصبح عملية التأثير عليه أكثر سهولة وأوسع تقبلا، وأن أفضل طريقة للوصول الى هذه الحالة، هي أنشاء رمزيات سياسية ودينية واجتماعية فاسدة ومفسدة، خاصة في مجتمعات دول العالم الثالث، لتحقيق الخلل في النفسية الفردية والجمعية، وبالتالي يصبح الالتحاق بالفاسدين وممارسة الفساد معهم مسألة وقت ليس الا، لان الفساد في تلك اللحظة يتداخل بالموروث الاجتماعي والعادات والتقاليد. ان الحديث عن أن الفساد الجاري في العراق اليوم لاعلاقة له بالعملية السياسية، وهو نتيجة الموروث الاجتماعي أو الظرف الراهن، انما هو ضرب من نسج الخيال، بل ان الصحيح هو استحالة وجود هذه العملية السياسية بدون وجود الفساد، لانها عملية قائمة على أساس المحاصصة، أي أن مؤسسات الدولة العراقية يجب أن يتم تركيبها وتشكيلها وتوزيعها، بطريقة الاسهم على كل الاطراف التي ارتضت العمل تحت هذه المظلة، وهذا يعني ضرورة ايجاد مناصب وهياكل ادارية لا تحتاجها الدولة العراقية، بل يحتاجها التقسيم الطائفي والاثني، مما يرتب لشاغليها مصالح مادية ومعنوية كرواتب وحمايات وامتيازات شخصية وعائلية، لا يُقدم ما يقابلها من جهد خدمي للدولة والمجتمع، مما يُسقط مبدأ (الاجر على قدر العمل). كما ان هذه التشكيلات السياسية التي ارتضت لنفسها التشبث بهذه المواقع والمناصب، قد جعلت منها مصادر ثروة يعتاش عليها الحزب ويثري من خلال عقودها، كي يمول أعضاءه ونشاطاته ومليشياته، حتى باتت هذه الاحزاب تملك ملايين الدولارات في حسابات مصرفية عالمية، وتدير استثمارات داخلية وخارجية، وتؤسس شركات في دول عربية وأوروبية، هي في الحقيقة ليست شركات تجارية بالمعنى المتعارف عليه، بل هي وزارات ومؤسسات ظل للوزارات التي يديرونها في الداخل، يتم من خلالها التفاوض مع الشركات الاخرى العالمية وارساء العقود عليها بأضعاف أسعارها الاصلية. ان رفع راية النزاهة من قبل بعض المشتركين بالعملية السياسية، وادعاءهم بأن ذممهم المالية نظيفة ولاعلاقة لها بالفساد المستشري، أمر لا يمكن تصديقه، لان جرائم الفساد الجارية في العراق تمت من قبل الجميع، وفي كل المراحل السياسية التي مرت على العراق منذ الغزو وحتى اليوم، وهي كأية جريمة أخرى كان فيها الجاني، وكان فيها المستفيد أيضا. فكيف يدعي هذا وذاك بانه بعيد كل البعد عن الفساد، ويقبل أن يتبوأ منصبا أنشئ فقط من أجله؟ ووزارة أعدت خصيصا له؟ وفق نظرية الشراكة السياسية التي تم تحريفها لتصبح شراكة ادارية ومعادلة توازنات. ولماذا صمت العديد من الكتل والشخصيات السياسية عن ملفات الفساد طوال هذه السنوات، وهي مشتركة في البرلمان والحكومة، ان لم تكن حساباتها السياسية قائمة على أساس الاستفادة من هذه الملفات كأوراق ضغط، يمكن أن تشهرها في وجوه الاخرين لانتزاع منصب أو الحصول على امتياز، بعدما غاب الوازع الوطني والضمير الحي الذي يجب أن يتحرك وفق المصلحة العامة، لا وفق المصالح والاهواء الحزبية والطائفية الاثنية. ان ما يتم تداوله اليوم من فضائح مالية أهدرت فيها ملايين الدولارات، تمثلت في قضايا فساد شملت قوت المواطن وغذاءه ودواءه وحاجاته الاساسية، انما هي مجرد صفحة واحدة من صفحات كثيرة صنعت ملامحها جميع الكتل والاحزاب السياسية، وان هنالك الكثير من الملفات الاكبر والاضخم لازالت غامضة ويسعى أبطالها لاخفائها في ملفات النسيان، عبر المراهنة على عامل التقادم الزمني. فلم يعرف المواطن العراقي لحد الان، كيف تصرف بريمر بالارض التي أقيمت عليها بناية السفارة الامريكية في العراق، التي تعادل مساحتها ضعفي مساحة دولة الفاتيكان. هل وهبها مجلس الحكم جائزة لهم بدل (التحرير)؟ أم باعه اليهم بسعر رمزي في غفلة من الزمن الرديء؟ وأية شرعية كان يملكها المجلس المذكور تتيح له التصرف بأرض عراقية؟ وهل القواعد الامريكية التي كانت ولازالت منتشرة في جميع أرض الوطن، هي مؤجرة لهم أم أنها هبة قدمها الحكام الجدد مقابل الكراسي التي بوأها لهم المحتلون؟ وكيف تم بيع الاسطول الجوي الحربي العراقي وأسطول طيران الجيش؟ الذي كان يضم أحدث الطائرات المقاتلة، والذي يعرف الجميع أنه كان في مواقع اخلاء بديلة ولم يتعرض للتدمير، بل تم بيعه مع كافة المحركات وقطع الغيار الاخرى الاحتياطية، التي كانت لم تزل في حاوياتها الخشبية، الى عدد من تجار ومرتزقة الاحزاب التي جاءت مع المحتل، وهم اليوم من أبرز رجال الاعمال نتيجة تلك الصفقة، التي منحت أموالا عامة الى حسابات شخصية، بينما لازال القسم الاخر من الاسطول لدى ايران؟ وبأي حق تصبح العشرات من الشركات التجارية التي أنشاها النظام السياسي قبل العام 2003، في العديد من الدول العربية والاجنبية بالشراكة مع تجار معروفين من تلك الدول، ابان الحصار الدولي على العراق كي يتم تأمين الغذاء والدواء والمستلزمات الحياتية الاخرى. نقول بأي حق تسجل تلك الشركات بأسماء زوجات وأبناء العديد من المسؤولين المتنفذين اليوم في السلطة، وهي أموال عراقية عامة؟ ان غياب مفهوم الدولة عن الواقع العراقي الحالي، جعل جميع الاطراف الحاكمة تبتعد عن العمل التراكمي النوعي والكمي الذي يضيف بصمة بارزة ويقدم خدمة عامة، وانحصر العمل والجهد فقط في مفهوم الحكومة التي هي قائمة اليوم لكن وجودها متغير، فبات تفكير المكلف بالخدمة العامة محصورا بمدى ما يستطيع تحقيقه من ثراء شخصي له ولعائلته وحزبه من خلال الموقع، لانه على يقين تام بأن القادم غدا سوف يزيحه، في خضم لعبة التوازنات السياسية والمحاصصات الطائفية والاثنية، لذلك كثر الحديث عن مصير المديرين العامين وأصحاب الدرجات الخاصة من حزب الدعوة، الذين تم تعينهم من قبل المالكي، في حالة نجاح علاوي بتشكيل حكومة، بعد أن تقدم بفارق الاصوات، حيث بدأ هو والقياديون الاخرون في قائمته، يهيئون قوائم بأسماء ومناصب أعضاء كتلتهم وأولادهم وأقربائهم وأصدقائهم، كي يستبدلوا بهم الموجودين في السلطة، وكأن المناصب الحكومية هي ملك شخصي لمن يتولى مسؤولية الموقع الاول في السلطة التنفيذية، بل ظهرت تصريحات من قادة بعض القوائم في خضم الصراع على الوزارات، كانت قد عبرت بصورة جلية عن معنى الوزارة والمؤسسة في نظر هذه الاحزاب، عندما صرح أحدهم (بأن على المجلس الاعلى أن يترك حقيبة وزارة المالية الى كتلة أخرى، لانه استفاد منها كثيرا، وليدع الاخرين يستفيدون منها أيضا). ان ممارسة الفساد المالي من قبل رجال دين معروفين، ودخولهم في صفقات بيع نفط وعقود تجارية بحجة التمويل الذاتي لمؤسساتهم الدينية، وتحول الكثير من زعماء القبائل وشيوخ العشائر الى أصحاب شركات عقارية وتجارية، تورد المواد الغذائية والمياه الغازية الى القوات الامريكية والعراقية، حتى وصل الحال بأحد شيوخ الانبار أن يتهم شيخا آخر في نفس المحافظة، بانه حول ما يسمى (قوات الصحوة) الى شركة لابرام الاتفاقات والعقود التجارية. نقول ان هذه الحالة هي أكثر تدميرا للبنى التحتية للانسان من فساد السياسي، لان هؤلاء رموز اجتماعية يتم النظـــــر الى أفعالهم على أنها عادات وتقاليد يجب الاقــــتداء بــــها، وأن فسادهم يشكل عبئا على الدولة والمجتمع حاضرا ومستقبلا