الصورة الأولى يروي الأستاذ عادل أبو شنب في كتابه ( شوام ضرفاء ) واقعة جرت أيام الإحتلال الفرنسي لسوريا ، حيث دعا المفوض السامي الفرنسي بعض وجهاء الشام إلى مأدبة غداء تقربا منهم في محاولة من سلطاته لأحتواء الغضب الشعبي السوري العارم جراء سفالة المحتل وجنوده .. وكان بين المدعوين شيخ جليل بلحية بيضاء ، وعمامة بيضاء ، رأه المفوض السامي يأكل بيديه ولا يستخدم الشوكة والسكين ، فأمتعض إلا أنه كضم غيضه ، ثم سأله عبر ترجمان : لماذا لا تأكل مثلنا يا شيخي ؟ رد الشيخ: وهل تراني أكل بأنفي ؟ قال المفوض السامي : أقصد لماذا لا تستخدم الشوكة والسكين ؟ أجابه الشيخ : أنا واثق من نظافة يدي ، فهل أنت واثق من نظافة سكينك وشوكتك ؟ أفحم الجواب المفوض السامي فأسكته ، لكنه بّيتّ أن ينتقم من الشيخ بسبب جوابه الفظ في نظره ، وكانت تجلس زوجة المفوض السامي إلى يمنيه وآبنته إلى يساره ، وبعد قليل طلب المفوض السامي ، شرابا مسكرا متحديا الشيخ وتقاليد البلاد ، خاصة مأدبة يحضرها رجال دين ، فصب من الشراب لنفسه ولزوجته وأبنته ، وراح يشرب على نحو يستفز الشيخ ، وهنا قال له : أسمع يا شيخي ، أنت تحب العنب وتأكله أليس كذلك ؟ قال الشيخ نعم ، وعندئذ قال المفوض السامي مشيرا إلى العنب ، هذا الشراب من هذا العنب ،فلماذا تأكل العنب ولا تقرب الشراب ؟ شخصت أنظار المدعوين جميعا إلى الشيخ ، لكنه ظل على آبتسامته التي لا تفارق شفتيه ، وقال موجها الكلام للمفوض السامي : هذه زوجتك وهذه آبنتك ، وهذه من هذه ، فلماذا أحلّتّ لك تلك وحرمت عليك هذه ؟ الصورة الثانية قصة هي الأخرى واقعية حدثت في الستينات من القرن الماضي ، يرويها أحد شهودها من سائقي التكسيات الذين كانوا يعملون في بغداد ما بين منطقتي الباب الشرقي وباب المعظم ، وكانت منطقة الميدان القريبة من باب المعظم معروفة لأهالي بغداد لوجود بيوت للدعارة فيها ، يروي سائق التكسي بأنه في أحد آلأيام وبينما كان يحمل راكبا من الميدان إلى باب الشرقي ، حاولت أمرأتان أن توقفا السيارة ، عندها صاح الراكب بسائق التاكسي : عمي لا توقف وآنا أعطيك أجرتهن ، آستغرب السائق لهذا الطلب الغريب لكنه عمل بنصيحة الراكب ومضى في طريقه ، وعند الوصول إلى منطقة باب الشرقي ، أخرج الراكب نقوده وحاول آن يدفع أجرته مع أجر الأمرأتين .. عندها سأله السائق ، أرجوك أن تخبرني عن السبب في منعي من ركوب الأمرأتين معنا ؟ ضحك الراكب وقال للسائق : أبني أنا أشتغل قواد والناس كلها تعرفني ، وهؤلاء النسوة واضح أنهن شريفات ، لذلك أخاف أن يراهم الناس معي في السيارة ويظنون السوء بهما .. عندها رفض سائق التاكسي من أخذ الفلوس من الراكب لشهامته.. الصورة الثالثة عندما ضاق الكيل بالشوام من سفالة جنود الإحتلال الفرنسي ، قرروا تنظيم آضراب عام تحديا لذاك الإحتلال ، ولهذا الغرض دعوا وجهاء المدينة إلى آجتماع في باحة المسجد الأموي للأتفاق على تفصيلات البدأ بالأضراب ، في هذا الأجتماع تعهد نقباء المهن ، الحدادة ، النجارة ، تجار الأقمشة ، وغيرهم بالأنظمام والمشاركة في هذا العمل الوطني المناهض للإحتلال الفرنسي ، وقبل آن ينفض هذا الأجتماع نهض رجل غير معروف من الحاضرين طالبا الكلام ، أذن له من كان يرآس الأجتماع بالحديث ، قال الرجل الغريب : أيها الأخوان ، أنا مسؤول اللصوص وكبيرهم في الشام ، أتعهد لكم بأسم زملائي اللصوص أن نتوقف عن السرقة طيلة أيام الأضراب .. صور ثلاث تكاد تنطق بالتعبير عن حالة مجتمعنا آيام زمان ، التركيبة الأجتماعية آيام زمان مثلما هي الأن تظم ، حالها حال كل مجتمعات الدنيا ،فيها الصالح والطالح ، وهذه من سنن الحياة ، لكن الصالح والطالح آيام زمان كان يعرف دوره ومقداره ، وعند الشدائد وما تتطلبه من مواقف ،كانوا رحمهم الله يرتفعون إلى ما يتطلبه الموقف ، رغم التباين في مواقعهم وشخوصهم .. شيخ أيام زمان كان بطلا ، يلقم العدو المحتل كلام من رصاص دون خوف ووجل ، وقواد آيام زمان كان يخاف على شريفات النساء من الشبهات وسوء الظن ، رغم آنه قواد ويعترف بهذا ، بل يتحمل خسارة من جيبه لكي يصون سمعتهن .. آما ذلك اللص فأنت لا تستطيع إلا أن تسميه اللص الشريف لموقفه المنسجم مع آبناء وطنه.. اليوم ، وعندما تشاهد نشرات الأخبار والحوارات التي تعرضها القنوات الفضائية العراقية الممولة أمريكيا ، تطالعك وجوه بعضها يتلبس عمامة سوداء ، وأخر عمامة بيضاء يحدثونك عن الدين الجديد الغريب بوجوب مهادنة المحتل وحرمة أزعاجه بالتظاهر ، والصبر على حكومة اللصوص، رغم أن هذا المحتل ولصوصه أهانوا ودنسوا كل شيء في العراق، أما القوادين منهم فأنهم بقوا أوفياء لمهنتهم دون تغيير إلا في العنوان ، فبدلا من الأعتراف الصريح بمهنتهم كما فعل قواد ولص آيام زمان ، أستبدلوا عناوينهم إلى عناوين جديدة لعلها تغطي آفعالهم وخزيهم ، فتراهم أعضاء في مجلس النواب ، وأخرين وزراء ، وبعضهم لا يقرأ ولا يكتب لكنه يتبختر برتبه عسكرية عاليه ، ناهيك عن شهاداتهم المزورة بأعتراف أجهزتهم البائسة بؤس وجوههم.. دولة البؤساء هذه ، أهدرت خلال سنوات الإحتلال المنصرمة أكثر من كل مداخيل العراق مجتمعة منذ ثلاثينات القرن الماضي ولغاية الإحتلال عام 2003 .. وبهذا الصدد تشير دراسة أعدها الخبير النفطي المرموق المهندس عصام الجلبي ، أن إيرادات العراق النفطية خلال 80 سنة للفترة منذ 1920 ولغاية الإحتلال في 2003 بلغت أقيامها بحدود 270 مليار دولار ، في حين بلغت أقيام مدخولات العراق من النفط، طبقا لمصادرهم المعلنة ،خلال ثمان سنوات من الإحتلال ( 2003 ـ 2011 ) 291 مليار دولار ، ورغم هذا الرقم الفلكي من المدخولات ما زال المواطن العراقي يعيش في بيئة غير صالحة حتى لعيش الحيوانات.. أتعرفون آين ذهبت هذه الأموال ؟ آنها في حسابات شيخ هذا الزمان ، وقواد هذا الزمان ، ولص هذا الزمان .