عقب العدوان الثلاثيني على العراق عام 1991، كنا وفداً فرنسياً عربياً مشتركاً في زيارة إلى بغداد، للتنديد بالعدوان و التضامن مع العراق، وكان من ضمن الوفد الصديق الفرنسي ايف فركاس رئيس "النداء الفرنسي ـ العربي في فرنسا" و أستاذ الفلسفة في جامعة السوربون آنذاك، و إلتقينا بجميع القيادات العراقية في النظام الوطني، عدا الرئيس الشهيد صدام حسين، و أثناء تلك الزيارة قال لي الصديق فركاس: يؤخذ على هذا النظام مسألة الديمقراطية والحريات و إبداء الرأي، فلماذا؟! أجبته: هذا موضوع شائك وهو لايخضع للمطلق، لأن المسألة لاتؤخذ بهذا التبسيط. و دار حوار مطول بيننا, و ختم حديثه بالقول: إذا كانت الأمور كذلك، فأنني سأكتب مقالة حول هذا الموضوع، فهل يقبل النظام العراقي بنشره في الصحف العراقية. أجبته بالإيجاب. وقام ايف فركاس لتوه وكتب مقالاً حول الحريات وسلمني إياه و قمت لاحقاً بتسليمه إلى جريدة "الثورة" العراقية، حيث تم ترجمته إلى العربية ونشره في مكان بارز. وقد سلمت نسخه من الجريدة لايف وقلت له: عندما نعود إلى باريس تستطيع التأكد من أمانة الترجمة ودقتها، ولتتأكد من المضمون دون أي تحريف في الترجمة أو النشر بعد شهور من تلك الزيارة، إلتقيت ذات مرة بهذا الصديق وبحضور الفيلسوف والمفكر الفرنسي جان دريش، وكان الحوار حول حزب البعث ومسألة القومية في فكر البعث، و ربطها بالإشتراكية. و التصور لديهم ـ إستناداً إلى فكرهما الماركسي ـ بالربط بين القومية الإشتراكية لدى البعث، و بين الوطنية الاشتراكية لدى الحزب النازي في المانيا والحزب الفاشي في ايطاليا. وقد أوضحت لهما ان الوطنية الاشتراكية لدى الحزبين النازي والفاشي لاعلاقة لها أبداً بمفهوم القومية والاشتراكية لدى البعث. و بعد حوار طويل و معمق، ختم جان دريش بالقول: لا أدري لماذا هناك تصورات فكرية خاطئة لدينا عن حزب البعث؟ ولماذا لاينشط البعثيين في اوروبا بطرح فكرهما بشكل واضح لايحتمل الألتباس؟!خاصة ان إيف أخبرني عن الإنجازات العملاقة لنظام البعث في العراق، وهي جديرة بالتقدير والاحترام وبدون مقدمات سألني ايف فركاس: هل تعتقد ان فرنسا و اوروبا ستشهد موجات تفجيرية من تدبير العراق، ثأراً من الذين شاركوا بالحرب عليه، على غرار ما قامت به سابقا، إيران أو تنظيم الفيس الجزائري؟! (كان يشير إلى التفجيرات التي شهدتها باريس آنذاك). أجبته: أستطيع ان أؤكد لك جازماً ان النظام الوطني العراقي لم ولن يلجأ إلى هذه الأساليب للأسباب التالية ـ حزب البعث الذي يقود النظام الوطني في العراق، هو حركة تاريخية يستلهم تاريخ الأمة العربية المجيد، و يبني من أجل مستقبل الأمةـ الحركات التاريخية، وحسب ما تعرفان، لايمكن ان تستهدف المدنيين و تروعهم بزرع المتفجرات و إلقاء القنابل في الشوارعـ البعث بالفكر والممارسة، ينسجم مع فكره الخلاق، ولم يعرف عنه أي ممارسة من هذا النوع طوال تاريخه النضالي سواء كان في السلطة أم لا ـ وهناك مسألة هامة أيضاً، تتعلق بأنسانية البعث في رؤيته إلى الشعوب والقوميات الأخرى أسوق هذه المقدمة الطويلة وصولاً إلى الأجابة على تساؤل مرير لقيادي عربي معارض إلتقيته قبل أيام بباريس: أين المقاومة العراقية هذه الأيام؟ نكاد لانسمع جديداً عنها؟! هل تلاشت؟! لا أخفيك أن الكثيرين من الشرفاء العرب يتسألون عن هذا الأمر قلت له: أجزم لك ان المقاومة العراقية الباسلة بخير، وهي تواصل نضالها الدؤوب لتحرير بلدها من الاحتلال و العملاء. ولكن لكل مرحلة ظروفها الذاتية والموضوعية. وقبل كل شئ، لاتنسى ان هذه المقاومة هي الوحيدة التي لم يتوفر لها أي دعم أو إسناد اقليمي أو دولي، بل على العكس من ذلك، فأنها كانت عرضة لكافة أنواع المحاربة اقليمياً ودولياً. وتكالب عليها الجميع. بعد ثماني سنوات من الإحتلال والمقاومة، هل تستطيع ان تدلني على جهة ما ساندت هذه المقاومة؟! و قلت له: ذات مرة قبل سنتين قال لي أحد الوطنيين العراقيين وهو ليس بعثياً، بل كان معارضاً للنظام العراقي: أين القوى الوطنية العربية والنقابات والاتحادات من المقاومة العراقية؟! أين الدعم الفعلي؟! أريد أن أصارحك بأن مئات البعثيين في العراق، باعوا منازلهم لدعم المقاومة، و أنت تعرف ماذا يعني ان يبيع العراقي منزله!؟ و تابعت قائلاً له: ليس غريباً ان تراجع أداء المقاومة ولكنها مستمرة. القوات الامريكية إنسحبت من الشوارع لتخفيف خسائرها وتحصنت في القواعد العسكرية التي أنشأتها لهذا الغرض. الإعلام العربي والغربي يمارس التعتيم الكامل على أخبار المقاومة و أنشطتها. دول الجوار وخاصة إيران، لم تفوت أي فرصة إلا و قامت بها للتأثير على المقاومة. النظام الرسمي العربي الخائن والمرتد قدم كل التسهيلات للاحتلال وعملائه وفي جميع الأوجه ولكن ما أستطيع أن أؤكده لك: هذه مقاومة تاريخية، إستطاعت أن تقارع كل الاحتلالات وبأمكانياتهم الكبيرة. و أن تمنع شروراً أخرى عن الأمة العربية، وخاصة مشروع الشرق الأوسط الجديد أو الكبير, ونظريتهم بالفوضى الخلاقة أو المنظمة قد ولت. و الأهم الأهم أنها أسست للتحرك الشعبي العربي الذي نراه في أكثر من ساحة. فقد ولى زمن الخوف من الأنظمة. وغداً عندما تشرق شمس العروبة المباركة، سننحني سوية لأرواح شهداء البعث والمقاومة العراقية