على مثال إحباط العوامل التي استخدمتها الولايات المتحدة الأميركية في احتلال العراق، تعمل حركة المقاومة الوطنية العراقية في هذه اللحظة الراهنة على تفكيك ما بقي منها. فأما الأسلوب العسكري الأميركي النظامي فقد واجهته المقاومة العراقية بأسلوب حرب التحرير الشعبية. ولما كان استقرار الاحتلال يُعتبر نجاحاً لأهدافه، فقد حالت بندقية المقاومة دون هذا النجاح، فخلخلت دعائمه واحداً بعد الآخر، واستمرت على زخمها إلى أن أرغمت الاحتلال على إعلان نيته على الانسحاب وبرمجة مراحله. وكان من أهم إنجازات المقاومة في إضعاف الاحتلال الأم هو إرغام حلفائه الـ(33) على الهرب في أوقات مبكرة، ولم يبق منهم إلاَّ الحليف الإيراني بقوة جواره الجغرافي للعراق، الأمر الذي جعل الاحتلال أمام استحقاق دفع فاتورة الدم والمال من لحمه وجيبه. ولما أصبح عاجزاً تماماً راح يعد نفسه للانسحاب من دوامة الخسائر. وهذا الذي حصل. وفي المقابل عزَّزت المقاومة قواها بتشكيل عمل جبهوي جعلها تزداد قوة على قوة، في الوقت الذي انتقل فيه الاحتلال من ضعف إلى ضعف. وزاد في ضعفه أن حليفه الإيراني رفع من سقف أطماعه على حساب أطماع أميركا، وتحوَّل إلى اللاعب الأقوى بين ضعيفين أرهقتهما فيه المقاومة العراقية. في ظل تحول موازين القوى بين الاحتلال والمقاومة لمصلحة المقاومة بقيت عوامل أخرى لا يزال الاحتلال يراهن على أن تمدِّ له قشة الخلاص لحماية بقاء ما تبقى له من قواعد عسكرية أو معالم ديبلوماسية. وعلى الرغم من ضعف تلك العوامل وهزالها، تقع الضرورة في إنهائها، للقضاء على أي أمل للاحتلال في إعادة إنتاج نفسه، على عاتق المقاومة التي تعمل الآن على خنق تلك القواعد أو المعالم. وعلى قاعدة انتقال الصفحة العسكرية النظامية في التاسع من نيسان من العام 2003 إلى صفحة المقاومة العسكرية الشعبية، كعامل حاسم في منع الاحتلال وحلفائه من الاستقرار الآمن في العراق، انتقلت المقاومة الوطنية العراقية الآن إلى مرحلة إضعاف جدران الاحتلال السياسية فرفعت من سقف حركتها السياسية، وهي تحرز الاختراق تلو الآخر في تهديم جدران ما بقي من عوامل إسناد للاحتلال، ومنعها من أن تحرز مواقع قوة جديد، والعمل على إلحاق المزيد من الاختراقات في تلك العوامل التي لا يزال يراهن عليها. وفي انتهاء السنة الثامنة لاحتلال العراق، وبداية العام التاسع، يمكننا أن نجري جردة حساب لحصاد المقاومة، التي على ضوئها نستطيع أن نحدد ما بقي عليها أن تنجزه، وما ظل للاحتلال ما يراهن عليه للتحلل من وعوده بالانسحاب النهائي. أولاً: إن المقاومة تشدد حصارها العسكري على قواعد جيش الاحتلال، تلك القواعد التي لا تزال تشكل حصان طروادة قد يمكِّن إدارة أوباما من استخدامها في التجديد لنفسه في الحالة التي يلوح له بارقة تحول إيجابي في الأفق. سواءٌ أساندته في توفيرها عوامل داخلية عراقية، أم ساندته عوامل إقليمية أم عربية ودولية. ثانياً: تحويل قلاعه التي تحمي ديبلوماسييه في المنطقة الخضراء إلى محرقة تجعل منها منطقة حمراء لا تستطيع قببه الحديدية التصدي لصواريخ المقاومة العراقية، بما يجعل حياتهم جحيماً لا يُطاق، وبما يجعل ياقاتهم البيضاء وقفازاتهم الحريرية عبئاً عليهم. ثالثاً: العمل على تهديم كل ما بناه مما اعتبره دعماً شعبياً سواءٌ أكان مصدره الصحوات أم كان غيرها. رابعاً: العمل على تهديم بناه الأمنية والعسكرية، وكل ما أنجزه من بنى إدارية أو سياسية، ظنَّ انها قد توفر له بيئة شعبية آمنة. خامساً: تعميق أزمته مع ما تبقى له من قواعد وبنى سياسية في بعض الأنظمة الرسمية العربية، ودعوتها إلى إعادة قضية الاحتلال إلى شأن عربي عليها أن تساعد في حلها في البيت العربي وعلى قاعدة التضامن العربي. سادساً: تطمين الدول الأجنبية إلى أن مصالحها ستكون محمية على قاعدة أن ما أرادت أن تحصل عليه بواسطة الاحتلال العسكري الأميركي، تستطيع أن تحصل عليه مباشرة من النظام الوطني في العراق على قاعدة شرعية تبادل المصالح بين الدول. وإننا بمراجعة سريعة لواقع المقاومة والاحتلال اليوم لوجدنا أنه لما فقد الاحتلال زخم قوته العسكرية أصبحت صواريخ المقاومة تشكل قوة مناسبة تخدم زخم قوة حركتها السياسية لأنه لا فائدة لعمل ديبلوماسي للاحتلال في ظروف لا توفر للديبلوماسي حماية أمنية. وبذلك تضعف صواريخ المقاومة حركة ديبلوماسية الاحتلال وفي المقابل تضيف إلى حركة ديبلوماسية المقاومة قوة على قوة. وللبرهان على أن الاحتلال يحاول الالتفاف على قراره بالانسحاب الكامل في نهاية هذا العام، إنه بالأمس القريب زار وزير الدفاع الامريكي روبرت جيتس بغداد وصرَّح قائلاً: «إن الولايات المتحدة ستكون مستعدة لبحث تمديد الوجود العسكري الامريكي في العراق بعد نهاية هذا العام». ولكن هذا مشروط ببقاء حكومة عراقية موالية قادرة على حماية نفسها، وحماية اتفاقية التجديد للقواعد الأميركية. فهل هذا ممكن حصوله؟ وعن ذلك تدل أبسط قواعد التحليل السياسي على أنه إذا كان نجاح حركة الالتفاف الأميركية مرهون باستعادة قوة الاحتلال، فكيف يمكنه أن ينجح وهو لم يوفِّر من شروط نجاحه أكثر من أن ضعيفاً يتكئ على ضعيف، وهارباً يتكئ على مهزوم، إنه المضحك المبكي، فمن يحمي من؟ هل يمكن أن يتوفر ذلك من حكومة عميلة تتكسر أرجلها واحدة تلو الأخرى؟ أم أن يوفره بعض النظام العربي الرسمي الذي يسقط أحدها تلو الآخر؟ أم تضمنه دول الإقليم الجغرافي وهي تحاول أن تنفخ نفسها وتزعم أنها قد تقوم بعبء مهمة كسرت ظهر من هو أقوى منها بكثير؟ أم أن دول العالم يمكنها أن تقدم مساعدة لمشروع نفضت يديها منه قبل سنوات عديدة؟ إن واقع الأمور، في هذه المرحلة، يؤكد أن ما يجري حتى الآن ليس بصالح الاحتلال وليس بصالح عملائه، وبه صدقت توقعات المقاومة كما ورد في منهجها السياسي الاستراتيجي في 9/ 9/ 2003. وبمراجعة سريعة لتلك التوقعات، نجد أن المقاومة من أجل تحقيق شعارها المركزي «طرد قوات الاحتلال وتحرير العراق والحفاظ عليه موحداً ووطناً لكل العراقيين»، حدَّدت في منهجها ثلاثة أهداف رئيسية، عليها أن تنجزها، وهي التالية: -طرد الاحتلال الأم: نص البرنامج على «استمرارية المقاومة طالما كان هناك احتلال وبأي صيغة وعلى أي جزء من أرض العراق وبغض النظر عن القرارات الأممية اللاحقة للاحتلال». و«استحالة تطبيق برامج الاحتلال السياسية والاقتصادية والأمنية والأخرى على أرض العراق». وعن ذلك، يكفي أن المقاومة وضعت الاحتلال على شفير الرحيل الأخير بترحيل ما تبقى له من قوات تحتال الإدارة الأميركية بشتى الوسائل والطرق على إبقائها كـحصان طروادة، وهذا ما أكدته تصريحات وزير الدفاع الأميركي في رحلته الأخيرة الى بغداد ومنها الى شمال العراق. وهذا الأمر تتحسب له المقاومة على قاعدة إضعاف أو تقويض الدعائم التي يتوهم أنها ستعفيه من تجرع كأس السم، ويتم ذلك أولاً بخلخلة ما تبقى من دعائم عراقية نراها تتهاوى تحت ضربات الشارع العراقي. وهي تميل نحو السقوط لأن عوامل هدمها تنمو في رحمها بما ارتكبته من جرائم لن يغفرها الشعب العراقي. كما يتم ثانياً بتأزيم أوضاع الأنظمة العربية التي شاركت بجريمة الاحتلال الكبرى، وسكتت عن جرائمه بعد الاحتلال. وهذا هو الهدف الرئيسي الثاني من الأهداف التي حددها المنهج الاستراتيجي للمقاومة. -حرق أصابع أنظمة عربية: نص البرنامج على «تعطيل الأدوار المحتملة لأنظمة عربية متآمرة انطلاقاً من مطلبيتها بالتعامل مع واقع الاحتلال وإفرازاته، وحرق أصابع تلك الأنظمة في تعاملها المخطط والمحتمل مع الشأن العراقي، وعكس ذلك على أزماتها السياسية والاقتصادية والأمنية المعاشة». وهنا، يُعتبر إفشال الاحتلال حرقاً لأصابع تلك الأنظمة بحيث وُضعت أمام أزمات حادة، لعلَّ من أهمها وصول حالة احتقان جماهير الشعب العربي، غضباً من عمالتها، درجة أسقطت نظاميْ بن علي في تونس، ومبارك في مصر، وهما من أهم دعائم الإدارة الأميركية في الوطن العربي من جهة، ووضعت إمارات الخليج وممالكه وجهاً لوجه أمام خطر أطماع النظام الإيراني التي قبرها النظام الوطني في العراق طوال ثمان سنوات، وأحياها احتلال أميركا للعراق في العام 2003. إن مرور أنظمة عربية بمرحلة عصيبة، لم تعد على الرغم من تبعيتها واثقة بمقدرة أميركا على لجم الأطماع الإيرانية طالما حدود العراق الجنوبية ظلت مفتوحة أمام جحافل الغزو الإيراني. ويكفي المقاومة العراقية أنها حرقت تلك الأصابع الملوثَّة بدماء العراقيين أنها تمر بأزمة من أشد أزماتها بما للخطر الإيراني من انعكاسات أكثر من سلبية على أمنها الداخلي. وإن المقاومة الآن معنية مرحلياً، وعلى قاعدة حل مشاكل العرب في داخل البيت العربي، أن تستفيد من أزمة إمارات الخليج وممالكه لتدعوها من أجل التعاون معاً لوضع حد للأطماع الإيرانية أولاً انطلاقاً من العراق لإقفال بوابته المشرَّعة أمام الغزو الإيراني. واعتبار أن سياسة الثأر من أخطاء الأشقاء ستُبقي الجميع أمام مخاطر الخارج. فاستفحال الخطر الإيراني سيضع تلك الأنظمة أمام خطر جدي لا يمكن أن يكون أقل مما شكله على العراق، بل سيكون على مثاله. كما أن إعادة حل الخلافات العربية الى البيت العربي يوجب التخلص من خطر الخارج أولاً. لقد وعت المقاومة العراقية بشكل مبكر خطورة التدخل الإيراني في العراق ولذلك حدد المنهج الاستراتيجي هذه الخطورة عندما وضعه بمثابة الهدف الثالث من أهداف المقاومة: -تأزيم الإقليم ومنع تمرير أهدافه: نص على «تأزيم الإقليم ومفرداته ومنع تحقيق مصالح الآخرين المجاورين على حساب العراق ووحدته الوطنية، وتعظيم تكلفة مساندتهم للعدوان وتعاملهم مع إفرازاته الداخلية في العراق المستهدفة تفتيت الوحدة الوطنية العراقية على حساب مصالح عرقية ومذهبية وجهوية وفئوية مرتهنة للاحتلال ومرتبطة بوجوده». لذلك وإذا كان من مهمات المقاومة إعادة حل الخلافات العربية الى البيت العربي فإنما من أجل مواجهة عربية مشتركة لإحباط أهداف الإقليم خاصة بعد أن وعت إمارات الخليج وممالكه مدى خطورة الأهداف الإيرانية بحيث أخذت تتلمسها وتحظر نفسها من أجل مواجهتها. على أن لا تكون هذه المواجهة مستقوية بالعامل الأميركي، بل مواجهتها بما تمتلكه المقاومة العراقية من زخم وقوة تأثير، لأن قاطع دابر التأثير الإيراني السلبي على الأمن القومي العربي ستتم حمايته بعراق محرر موحد قوي ستقوده في المستقبل المقاومة التي اقتلعت الاحتلال وكل إفرازاته. وتحذير دول الخليج العربي من خداع جديد تمارسه عليها الإدارة الأميركية التي لا تأبه لمصلحة أحد، بل ستكون على استعداد للتعاون مع إيران كما فعلت في بداية الاحتلال إذا اتفقتا على تقسيم المصالح في الوطن العربي بشكل عام، وفي جزئه الشرقي بشكل خاص. وإذا لم يتخلَّص النظام الإيراني من عقدة أوهامه بالحصول على مكاسب إيرانية في الوطن العربي بواسطة دور تخريبي. وإذا لم يصل بعد الى قناعة بأنه لا يمكن أن تكون إيران قوية إلاَّ بوجود أمة عربية قوية. فلن يكون الحل إلاَّ بالتضامن العربي لمواجهتها بكل الوسائل والأساليب المشروعة والمتاحة. وفي نظرة لمعرفة ما أنجزته المقاومة من حصاد لوجدنا أنها أنجزت الهدف الأول بأهم مفاصله، ولم يبق عندها من مهمات غير إسقاط الهيكل العراقي السياسي العميل. وإن كان هذا هدفاً للمقاومة إلاَّ أن الهيكل كان يحمل أيضاً حتمية سقوطه في ذاته. وحتمية هذا السقوط تتمثل بما قام به عملاء الاحتلال من تدمير وفساد وسرقة، وهو لهذه الأسباب يشرف على الانهيار من داخله بعد أن رفضه الشعب العراقي ونزل إلى الشارع لإسقاطه. أما الهدف الاستراتيجي الثاني، وهو حرق أصابع النظام العربي الذي لم يسكت عن الاحتلال فحسب بل شاركه بالاحتلال أيضاً، فإنه أصبح اليوم على قناعة بأن أصابعه تحترق وتزداد احتراقاً. ويأتيه الاحتراق من شعوره بالورطة التي أوقعه فيها الاحتلال الذي يطلب الحماية من الآخرين، ولعلَّ من أهمها طلب المعونة من بعض الأنظمة العربية لمساعدة عملاء الاحتلال في العراق للوقوف على أرجلهم. وهذا ما بقي على تلك الأنظمة ليس أن تعيه وتنأى بنفسها عن مد يد المساعدة إلى أولئك العملاء فحسب، بل تعمل على تعميق أزمتهم أيضاً. وأما تأزيم الإقليم، فقد أنجزت المقاومة هذا الهدف بانتصارها على الاحتلال الأم، وبالتالي فإنها أوقعت كل حلفائه بأزمة كبرى. ولهذا التفَّ النظام الإيراني على حليفه وراح يستغل ضعف الاحتلال من أجل تنفيذ مشروعه الخاص. فغرق في وحول أوهامه. كما أغرق نفسه بالتصدي لمهمة ستوصله إلى إفلاس حقيقي ليرى نفسه أنه قد استُنزف وناء تحت أثقالها. فالمقاومة العراقية التي استنزفت إمكانيات وقدرات أميركا، أكبر دولة في العالم، ليست عاجزة عن استنزاف النظام الإيراني الذي لم يستطع تحقيق أوهامه إلاَّ تحت خيمة احتلال أميركا للعراق. وأخيراً، بعد أن أنجزت المقاومة العراقية بكفاءة شروط انتصارها من خلال وضع الاحتلال وعملائه وشركائه أمام مآزق حادة، فهي الآن تطير على جناحين اثنين: جناح البندقية وجناح الحركة السياسية. وبتكاملهما، لهي تقف الآن على أبواب مرحلة جديدة تكاثرت فيه عوامل انتصارها، بالمقدار الذي تراجعت فيها العوامل التي تدفع الاحتلال الأميركي إلى التراجع فالهرب.