جرت العادة عند الحديث عن ذكرى الاحتلال في كل سنة، الدخول في سجل المحتل الاسود وما ارتكبه من جرائم بحق العراق واهله، وظني باننا لا نضيف جديدا اذا طرقنا هذا الباب بعد مرور ثماني سنوات على الاحتلال، حيث اطلع الخلق في جهات الارض الاربعة على هذه الجرائم، او سمع بها عبر وسائل الاعلام التي تنقل ما يجري من احداث ومصائب في اي مكان وبسرعة البرق، بل يجد المرء نفسه احيانا وكانه يعيش في قلب الحدث، او هو جزء منه. وحتى الذي جرى او يجري التستر عليه سرعان ما يفتضح امره، ليس بعد ثلاثين سنة كما يحدث في الدول الغربية، وانما بعد ثلاثين يوما، واحيانا بعد ثلاثين ساعة. هذا غير المقالات والدراسات والندوات والمقابلات، التي فضحت هذه الجرائم وما حل بالعراق من دمار وخراب، الامر الذي يسمح لنا باختزال هذا السجل تحت عناوين ذات صلة، مثل القتل والتدمير والتهجير والتجويع والتجهيل وزرع الفتن ونشر الفوضى الخ. لهذا السبب سيقتصر الحديث بهذه المناسبة او الفاجعة، سمها كما شئت، على الثمان سنين الخضر من كفاح الشعب العراقي لطرد المحتل، كونه السبب الاول والاخير لكل هذه الجرائم، ونترك الاخرى اليابسات للمحتل ليجد له حلا يخرجه من نار العراق بماء الوجه. وفي هذا الصدد سيجري التركيز على المقاومة المسلحة، باعتبارها التعبير الصادق لهذا الكفاح البطولي، والوجه الاكثر اشراقا والارقى شكلا من بقية الوسائل الكفاحية الاخرى. ولا نقصد هنا القاء الضوء على ما قامت به هذه المقاومة من اعمال بطولية، وما حققته من انتصارات مذهلة، فهي تحدثت عن نفسها في سوح القتال وحلبات العز، حتى نظر اليها الاعمى وسمع بها من كان باذنه صمم، وانما نقصد هنا الوقوف على مدى قدراتها على مواصلة كفاحها، وعلى امكاناتها لانجاز مهمتها النبيلة واستعادة استقلال العراق وسيادته الوطنية ووحدة اراضيه كاملة غير منقوصة. والحديث عن المقاومة وقدراتها على تحرير العراق اصبح اليوم اسهل مما كان عليه بالامس الذي شهدت فيه المقاومة حالة من التراجع الملحوظ ، وهذا بدوره ولد حالة من الاحباط لدى عامة الناس لعدم ادراكهم طبيعة المعركة الدائرة، كونها معركة طويلة الامد يكون التراجع فيها لسبب ما جزء من الياتها. وتاتي سهولة هذا الامر نتيجة لتصاعد عمليات المقاومة المسلحة، وخصوصا خلال التسعة شهور الاخيرة، الامر الذي اجبر قوات الاحتلال على التعامل مع هذا الفعل المقاوم بجدية وقوة، بحيث اضطرت في بعض الاحيان الى القيام بعدة انزالات لجنود مظليين في مدن عديدة، منها هيت وديالى والفلوجة وكركوك، والاشتباك في قتال ضاري مع قوات المقاومة في هذه المدن. ليس هذا فحسب وانما قامت قيادة قوات الاحتلال في الاسبوع الاخير من شهر تموز الماضي، وعلى وجه التحديد في 22 منه، بارسل 3000 جندي مارينز الى محافظة الانبار عموما، والى مدينة هيت خصوصا لاستعادتها من سيطرة قوات المقاومة. وكان اكبر هذه المعارك التي خاضتها المقاومة تلك التي حدثت في نهايات العام الماضي، ونقصد بها معركة ديالى والتي سمتها الحكومة بمعركة النخيل، حيث الحق المقاومون هزيمة نكرا ء بالقوات المشتركة من الحكومة والمحتل. ومن الجدير بالذكر فقد وصف مسؤول في البنتاغون اجتياح المقاومة لهذه المحافظة والسيطرة عليها، باجتياح قوات الحلفاء لفرنسا عبرشواطيء النورمندي في الحرب العالمية الثانية، ناهيك عن المعارك المتنوعة الاخرى، ومنها القصف اليومي لجميع القواعد العسكرية المنتشرة في طول البلاد وعرضها، وتكبيد قوات الاحتلال خسائر جسيمة في الارواح والمعدات، وكان اخرها قصف المنطقة الخضراء قبل عدة ايام باكثر من مئة صاروخ وبدقة متناهية. اما الاهم من ذلك، فهو اتساع حجم التاييد الشعبي لهذه المقاومة ودخول الناس في محرابها افواجا، اذ من دونه يتعذر على المقاومة انجاز مهمتها النبيلة، كونه يشكل خط الدفاع الاول والحصن الامين جراء غياب الجغرافية الملائمة لحروب التحرير كالجبال والغابات والوديان وغيرها. هذا التطور في الفعل المسلح، وحسب تقديراتنا، سيستمر ويتواصل في هذه المرحلة والمراحل اللاحقة، بل وسيجري العمل على احداث نقلة نوعية في مجرى الصراع ونقصد بها توجيه مسار العمليات المسلحة نحو معارك المدن من اجل فرض السيطرة عليها تمهيدا للانتقال الى الهجوم الاستراتيجي الشامل ضد قوات الاحتلال اينما وجدت لطردها من العراق، بصرف النظر عن المدة الزمنية التي تحتاج اليها وقد تطول سنين اخرى، خصوصا وان مقومات هذه المرحلة اصبحت متوفرة اكثر من ذي قبل، فمن جهة تراجعت قوات الاحتلال الى الخلف وتموضعت في قواعدها العسكرية داخل البلاد وتركت مهمة الدفاع عن المدن لقوات الحكومة، وهذه بمجموعها سواء المسماة بالجيش او الشرطة او الاجهزة الامنية ضعيفة الى درجة كبيرة لن تمكنها في الايام الموعودة من الصمود في وجه المقاومة، وقد نجد نموذجا عنه في هزيمة اكثر من 300 شرطي وحرس حماية امام ثلاث مسلحين دخلوا محافظة صلاح الدين واستولوا عليها بصرف النظر عن هوية المهاجمين واهدافهم. ومن جهة اخرى، خاضت المقاومة من قبل حروب تحرير المدن او فرض السيطرة عليها او طرد قوات الاحتلال منها وحققت فيها انتصارات كبيرة على قوات الاحتلال كان اخرها كما ذكرنا معركة ديالى وفرض السيطرة عليها حتى يومنا الحاضر. ناهيك عن التطورات الهامة التي حدثت في الاونة الاخيرة والتي تصب في نهاية المطاف لصالح المقاومة العراقية والمتمثلة تحديدا في الانتفاضة الشعبية ضد حكومة المحتل وعمليته السياسية برمتها. حيث بينت هذه الانتفاضة مدى كره الشعب للمحتل وغسل يده بمئة قالب صابون كما يقال من الحكومة والبرلمان والعملية السياسية برمتها من خلال شعاراتها ومنها "اخرج اخرج يا محتل... شعبي حر وما ينذل". نعم للاستقلال لا للتبعية والاحتلال، و ارحل ارحل يا محتل ... انت واذنابك منذل " اما فيما يخص الحكومة فيكفي شعار "نوري المالكي ونوابه. كلهم حرامية وكذابة" حيث تحول لاحقا الى اغنية شعبية اصبحت متداولة بين الناس. لكن هذا ليس كل شيء فقد حدث تطور هام في مفاهيم فصائل المقاومة، حيث جرى التخلي عن مقولات النصر الحاسم والمرتقب وتحديد مواعيد له، او بحث المحتل عن مخرج او انسحاب مشرف، وتولد لديها بدلا عن ذلك قناعة بان الصراع ضد المحتل هو صراع طويل الامد، شانه شان حروب التحرير التي جرت في مختلف بلدان العالم التي تعرضت للاحتلال، ثم الايمان بمقولات اخرى ذات صلة من قبيل المقاومة الشعبية هي حرب السياسة في مواجهة القوة، وحرب الأضعف في مواجهة الأقوى. ناهيك عن ظهور بوادر تدعو للتفاؤل بلم شمل فصائل المقاومة تمهيدا لوحدتها، بل ان بعض هذه الفصائل الفاعلة في الساحة العراقية قد ابدت استعدادها الكامل للانضواء تحت اي صيغة توحيدية ودون شروط مسبقة، ومما يعزز هذا الراي وصول جميع فصائل المقاومة العراقية الى قناعة بعدم قدرة اي منها، منفردة او متحالفة مع عدد اخر، من انجاز مهمة تحرير العراق. ويمكننا الاستدلال هنا بالبيانات المشتركة التي صدرت عن جميع فصائل المقاومة بشان وقف العمليات العسكرية خلال الايام الاولى للانتفاضة لقطع الطريق على الحكومة من استغلال ذلك لصالحها. ما يدعونا للتفاؤل فيما يخص مستقبل المقاومة المشرق، ليس بسبب الحماس أو الانحياز، ولا التعلق بامال او اوهام لا صلة لها بالواقع،وليس له علاقة ايضا بالحتمية التاريخية التي تؤكد على هزيمة المحتل عاجلا ام اجلا، وانما الاستناد على الوقائع العنيدة التي برزت خلال مسيرة الصراع القائم. ومنها على سبيل المثال لا الحصر اعتراف الدولة المحتلة بعدم قدرتها على انهاء المقاومة عسكريا، في حين فشلت ايضا عبر الوسائل السياسية باقناع المقاومة بالتخلي عن سلاحها مقابل مكاسب مغرية.على الرغم من استخدام كل حلفائها في هذا الخصوص، اضافة الى الامم المتحدة والجامعة العربية وامارات الخليج. كما فشل المحتل في تحقيق غرضه عبر المؤامرات والحصار او التشويه او وصف المقاومة بالارهاب او الطائفية. بالمقابل وعلى الجهة الاخرى وجراء صمود المقاومة الرائع وتقدمها بخطى ثابتة صوب تحرير العراق، فقد امتدت جذورها وترسخت ثوابتها الوطنية في عقل ووجدان العراقي، الامر الذي زادها قوة وصلابة واصرار. اما على ارض الواقع، وليس على صفحات الجرائد او من خلال البيانات، فقد اصبح فعلها المؤثر عسكريا وسياسيا ضد المحتل واعوانه حقيقة كما هي الشمس لا يمكن تغطيتها بالغربال. وحتى عمليات المقاومة في مدن جنوب العراق، لم يعد بامكان المحتل التعتيم عليها كما كان يحدث في السابق. حين نحاول اشاعة روح التفاؤل في النفوس فهذا حق مشروع، خصوصا وان المقاومة تتعرض منذ اليوم الاول لانطلاقتها الى حملات من التقزيم والتشويه، ثم ترويج المزاعم بانتهاء المقاومة ومن انها اصبحت في خبر كان او من مخلفات الماضي. ولكن هذا لا يعني بان الامور تسير على ما يرام، وان المقاومة لم تعد بحاجة لشيء سوى عامل الزمن ، الامر الذي يدعونا الى لفت الانتباه الى ضخامة المهمة، فتحرير العراق لا يكفيه تسجيل الانتصارات هنا وهناك، وانما بذل كل الجهود من اجل توفير مستلزمات الانتصار النهائي وذلك من خلال تهيئة الظروف الملائمة لهذه النقلة النوعية والوقوف على ارضية صلبة تستند عليها، واستراتيجية جديدة تهتدي بها، وخطط عسكرية وسياسية واعلامية دقيقة ومحكمة، وتكتيك يضبط تنفيذ العمليات في المعارك المختلفة، والية واضحة ودقيقة يمكن من خلالها، او بواسطتها ترجمتها على الارض. وكل ذلك لا يكتمل، كما نكرر دائما، من دون وحدة فصائل المقاومة اليوم وليس غدا. هذه الخطوة التي يتطلع اليها الشعب العراقي هي التي ستهزم المحتل وتعيد العراق الى اهله مستقلا وذا سيادة كاملة وموحدا.