أُسقط التمثال ولم يحل محله نصبٌ آخر. وخلا عرش العراق ولم يستطع أن يملأه آخر، رغم كثرة الطامعين والطامحين بالخلافة في بغداد. وما بين التماثيل التي كانت منتشرة في أنحاء العراق، ومن كان يجلس على عرش الحكم لا توجد أية مسافة اطلاقا، لان كلاهما متشابه كأي إنسان وظله. هذا هو منطق الأشياء الحقيقية التي تعطي صورة واضحة للعين المجردة، بينما الولاة الجدد كانوا ولازالوا ظلالا لآخرين، ولا يمكن أن يضعوا لأنفسهم تماثيل كما فعلها صدام حسين، لان المسافة ستقاس في ضمير كل عراقي بين الأصل والدمية. فكيف للعراقيين أن يضعوا في شوارعهم وساحاتهم تماثيل لدمى تمثل حكام في أمكنة أخرى من هذا العالم؟ لذلك أسقطوا تمثال الجنرال مود بإرادتهم، بينما أسقط تمثال صدام حسين بأيد ليست عراقية، وبسيناريو أعده مركز الدراسات السيكولوجية والتأثير النفسي في المخابرات المركزية الأمريكية، لزعزعة الثقة في كل شيء يمثل الإرادة العراقية، ثم تبعه في صفحات أخرى إسقاط لكل الرموز والقيم الوطنية التي تشكلت منها الدولة العراقية، كالمؤسسة العسكرية والأمنية، حتى تم الإجهاض على مؤسسة الدولة كاملة. لقد جبلت النفسُ العراقية على الأنفة والكبرياء، ورفض الذل والخنوع لمؤسساتٍ شكلية من (علم ودستور ومجلس أمة كل عن المعنى الصحيح محرف) حتى باتت (أسماء ليس لنا سوى ألفاظها، أما معانيها فليست تعرف)، لذلك هم يشعرون بأن كل شيء جرى كان خارج ارادتهم، ولم يكونوا أصحاب قرار فيه أو حتى مساهمين شكليين، وباتوا اليوم يساءلون أنفسهم، اذا كان الوضع العراقي فعلا يحتاج إلى تغيير في ذلك الوقت، لماذا لم يتركونا نغيره نحن؟ وهل أشقاؤنا في تونس ومصر أقدر منا على الفعل؟ أم أن مشروع التغيير الذي حصل في العراق لاعلاقة له لا بالحاكم ولا بالسلطة، بل بالمصالح الغربية في العراق؟ لذلك هم اليوم يعيشون حالة استلاب حقيقي وغربة بكل ما يحيط بهم، لأنهم تعودوا أن يكونوا فاعلين لا متفرجين، صناع تاريخ لا هامشيين، وهذه هي معضلة العراق منذ التاسع من نيسان/ابريل 2003 وحتى اليوم. لقد عرف العراقيون بأنهم لا يهابون ظل أحد، ولا يقرُ لهم قرارٌ إلا عندما تكون الخلافة في بغداد، ويكون الخليفة عربيا منهم، لذلك كان العراق من أصعب الولايات عندما يكون تابعا لامبراطورية غير عربية. وإذا كان الإيرانيون قد سعدوا بإزالة التمثال وأصله، لحسابات تاريخية وطموحات إمبراطورية تحاول النهوض من جديد في بلاد فارس، التي عرقلها صدام حسين في حرب الثماني سنوات، وجعل مصدري الثورة يتجرعون السم الزعاف وينكفئون على أنفسهم خائبين خاسرين، وكان أول من ذكّر بخطورة المشروع الإيراني على الأمة، الذي يتلظى بنيرانه اليوم عدد من دول الخليج العربي، فان الأمريكان أكثر سعادة اليوم وهم يرون أنفسهم قد حققوا حُزمة أهداف كانت قبل العام 2003 حلما بالنسبة إليهم. فلم يعد هنالك صدام حسين الذي يساومهم على الثروات النفطية مقابل استيراد التكنولوجيا الغربية لبناء نهضة علمية وطنية. كما لم يعد هنالك عراق يغرد خارج السرب الأمريكي ويضع العصي في عجلة السياسة الأمريكية، ويذهب زعيمه إلى الملك فهد بن عبد العزيز فيوحد موقف العراق والسعودية في منع تصدير النفط إلى كل دولة تنقل سفارتها إلى القدس، ويفشل قرار التمهيد بجعل القدس عاصمة إسرائيل. أما من الناحية الأمنية فلقد تم ضمان أمن إسرائيل بشكل لم يسبق له مثيل من قبل. فالعراق الذي كان لجيشه شرف المشاركة الفعالة في كل الحروب العربية ضد إسرائيل، والذي لم يوقع أية هدنة عسكرية مع الجيش الإسرائيلي كبقية الجيوش العربية، وبقي في العرف العسكري في حالة حرب معها، وأطلق من أرضه العديد من الصواريخ لتدك العمق الإسرائيلي، نقول في ظل كل هذا التاريخ المشرف انقلبت الموازنة الأمنية لصالح العدو الصهيوني تماما، حتى باتت مقرات الموساد الإسرائيلي في العراق معروفة حتى من قبل عامة الناس، خاصة في بداية الاحتلال، كما أن الكثير من أقطاب السياسة القادمين مع قوات الغزو كانوا قد زاروا إسرائيل سرا أو علنا، حتى وصل الحال بأحد نواب البرلمان العراقي لتلبية دعوة لزيارة إسرائيل، ووقفت ما تسمى المحكمة الاتحادية عاجزة تماما عن تجريمه في ظل القوانين العراقية الجديدة، بل ان وثائق ويكيليكس بينت ان قطاع التجارة الإسرائيلي استفاد كثيرا من الوضع الجديد في العراق، من خلال إغراق أسواقه بالبضائع الإسرائيلية.لقد صنع صدام حسين تاريخه وجزءا من تاريخ العراق والمنطقة، لكنه لم يصنعه بإرادته بصورة مطلقة، ووفق ما كان يحلم به تماما. فلقد تحكمت به ظروف وأمُليت عليه مواقف فرضتها أهمية المنطقة التي هي مركز المصالح الدولية في العالم، التي لا يمكن أن يسمح لأحد فيها أن يبني له وسائل قوة خشنة أو ناعمة للدفاع عن مصالحه الخاصة، وانتهاج استقلالية سياسية واقتصادية وثقافية تامة. فلقد انتقل العراق في ظل حكمه من خانة الدول المتخلفة إلى مصاف الدول التي لها موقعها الخاص في الخريطة الدولية. فبناء القوة العراقية الضاربة بدأ بالبرنامج النووي والتصنيع العسكري والجيش الذي أصبح من أقوى جيوش المنطقة. والقوة العراقية الناعمة بدأت بالطفرة الاقتصادية التي هيأتها عملية تأميم النفط، والاعتماد على الخبرات الوطنية والعربية في عملية البناء، والتي فرضت مجانية التعليم والصحة والقضاء على الأمية، وجيوش البعثات إلى أرقى الجامعات العالمية. كما نشطت الدبلوماسية العراقية في كل المحافل الدولية، وتم التأسيس لسياسة عربية قومية المنهج من خلال فتح الحدود لكل الخيرات والعمالة العربية، ومحاولة ابعاد الدول العربية الضعيفة اقتصاديا عن التأثير الغربي، من خلال صندوق الدعم الذي اقترحه العراق في القمة العربية، إضافة إلى المشاريع التي كان ينجزها مجانا إلى أشقائه العرب في أقطارهم. أنه تجاوز غير مسموح للخطوط الحمراء في السياسة الدولية مارسه الرجل ورفاقه منذ العام 1968 وحتى العام 2003. ولكون العراق منذ السبعينات دخل ضمن منظومة الدول الأكثر أهمية للاقتصاد العالمي، بسبب زيادة أهمية الثروة النفطية والطلب عليها، ولان هذه الحالة تكبل الدولة - أية دولة - وتجعلها أقل قدرة على اتخاذ قرارها السياسي بحرية، لان هذه الأهمية تنقل القرار من الداخل إلى الخارج، فيصبح صانع القرار غير حر في اتخاذ قراراته بصورة كاملة، لذلك حصل الصدام الطبيعي في العراق بين الإرادة الخارجية في التدخل في صنع القرار، وبين صدام حسين الذي كان مهوسا باستقلالية قراره في بناء العراق النموذج للأمة والمنطقة. عندها بدأ وضع السيناريوهات الغربية الضاغطة للانتهاء من هذا الوضع الشاذ برأيهم. لكن الرد عليهم بأسلوب التصميم على نفس النهج العراقي المستقل، جعل قرار الغزو والاحتلال أمرا لابد منه، لان (أعمالنا، نمط عيشنا، حريتنا وحرية البلدان الصديقة في العالم، ستعاني اذا لم يتم التحكم في أكبر احتياطيات البترول). هذا ما قاله بوش الأب وقبله قال كيسنجر (من يريد السيطرة على الأمتين العربية والإسلامية فعليه، أن يدمر ارادة الأمة العراقية، باعتبارها الحلقة الرئيسية فيها). نعم لقد أخطأت كما أصابت التجربة التي قادها الرجل ورفاقه على مدى خمسة وثلاثين عاما، لأنها تجربة إنسانية في ظل ظروف عربية ودولية شائكة ومعقدة، لكن من الطبيعي أيضا بل من الإنصاف أن تقوّم التجربة في سياقها، وليس في سياق الكذب والتزييف الذي مارسته الإمبراطورية الإعلامية الغربية، الذي فضحه الاحتلال نفسه بعد أن لم يجد أسلحة دمار شامل، ولم يصل إلى أي برهان يؤكد العلاقة بالقاعدة. وكما أن لكل تجربة ملامحها الخاصة وأسلوبها الذي يميزها عن غيرها من التجارب، كان للتجربة العراقية التي قادها صدام حسين ورفاقه، منهج وطني وقومي خالص عرفه الوطنيون العراقيون حتى من كان يعارض سياساته قبل الاحتلال، وعرفه آخرون بعد الاحتلال بعد أن تكشفت لهم الوقائع، فلقد تبين أن الرجل وعائلته ورفاقه في الحزب والسلطة لا يملكون أية أرصدة مالية أو عقارية في الداخل والخارج، ولم يهرب أحدهم إلى خارج العراق ويستعطف عربي أو أجنبي كي يجيره، بل رفض الرجل حتى نقل محاكمته المهزلة إلى خارج العراق، كي لا يقول التاريخ ان صدام حسين هرب من شعبه وبلده، وفضل أن يصعد إلى حبل المشنقة مؤكدا على مشروعه الوطني والقومي الذي أجهض، قائلا بعد الشهادة عاش العراق عاشت فلسطين عاشت الأمة العربية.