لم يشهد التاريخ المعاصر غزوا واحتلالا لدولة مورست فيهما الخديعة والتظليل، كما حدث في عملية غزو واحتلال العراق. كما لم نسمع او نقرأ بمثل هذا الحشد الهائل من القوى الدولية والاقليمية، وهي تجتمع تحت قيادة واحدة لاستهداف دولة اخرى واحتلالها خارج اطار الامم المتحدة. واذا ما نظرنا الى كل ذلك مترافقا مع ما اثارته هذه العملية من ضجة كبرى ومن شكوك حول دوافعها، لازالت قائمة حتى اليوم بعد ثماني سنوات من انطلاقتها، فاننا نصبح على يقين تام بعظمة الاهداف اللااخلاقية المرسومة لها، والمصالح المتوخاة منها مستترة وعلنية، والتي لا تمت اطلاقا بأية صلة بموضوع اسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة، او ارتباط القيادة السياسية العراقية انذاك بتنظيم القاعدة. لقد وضعت القوى المتنفذة دوليا اهدافا متحركة لتلك الحملة قبل الشروع في الغزو بزمن طويل، على الرغم من ان غايتهم النهائية كانت احتلال العراق، خلافا لقرارات الشرعية الدولية، واسقاط نظامه السياسي المعترف به عالميا. فلقد كانت تأمل في انضاج الظروف الموضوعية والذاتية للقيام بعملية التغيير السياسي للنظام، سواء بالاغتيال او من خلال دعم بعض الاطراف لانجاز ذلك. كما انها كانت تراهن ايضا على انضاج موقف دولي داخل اروقة الامم المتحدة، يمكنها من استصدار قرار دولي يجيز لها القيام بشن الحرب، في حالة فشل انجاز المهمة وفق الطريق الاول الذي كانت تفضله، والذي لم يكن يحتاج الى كلف مادية ومعنوية كبيرة، كما في حالة شن الحرب. فكان الهدف الاول للحملة هو ما سمي تخليص البشرية من التهديد العراقي القادم، بفنائها باسلحته البيولوجية، الذي كان فرصة كبرى لادخال طواقم المخابرات الاجنبية بغطاء فرق التفتيش، لتحقيق غايتين اساسيتين: اولاهما اشعار الكوادر العسكرية والمدنية العراقية، بان السيادة العراقية اصبحت معدومة، من خلال الاصرار على الدخول الى كل المواقع السيادية، وثانيتهما رفع غطاء حماية الدولة العراقية لكوادرها، من خلال ضغط لجان التفتيش للانفراد بهم، ومحاولات استجوابهم وتهديدهم وترغيبهم للبوح بالمعلومات السرية، حيث توقعت تلك الجهات الاستخبارية ان هذا الفعل سيقود الى اسقاط هيبة الدولة العراقية واجهزتها السيادية، وبالتالي سيولد حالة رفض في تنفيذ الاوامر واحداث تمرد، خاصة في قطاع الجيش والاجهزة الامنية الاخرى، وبذلك يصبح بالامكان اسقاط النظام بقليل من الدعم اللوجستي. كما ان وجود لجان التفتيش المطعمة بضباط المخابرات الاجنبية سيحقق هدفا اخر، وهو الوصول الى حالة التأكد التام من عدم وجود اسلحة دمار شامل عراقية، قد تستخدمها القيادة السياسية العراقية في حالة حصول الغزو، حيث ان الامريكان كانت لديهم معلومات غير مؤكدة عن عدم امتلاك العراق لها بعد العام 1991. ان اخفاق الولايات المتحدة الامريكية وحليفتيها بريطانيا واسرائيل في الاستفادة من هدف التفتيش الذي استنفد اغراضه، والذي بانت اهدافه غير الشرعية بصورة جلية، بعد فضحها من قبل اعضاء لجان التفتيش الحقيقيين، مما اوقع المنظمة الدولية باحراجات كبيرة بسبب تواطئها في هذا المجال، فانه دفع هذه الدول لوضع اهداف جديدة لحملتهم ضد العراق، خاصة بعد سقوط خيار التغيير من الداخل. فكانت العلاقة المفترضة بين القيادة العراقية وقيادة القاعدة هي التهمة الاخرى التي جرى البناء عليها، لتحشيد الرأي الرسمي الدولي في مواجهة العراق، الذي بات قاب قوسين او ادنى من وضع ترسانته البــــــيولوجية بايدي مقاتلي القاعدة، كما كانوا يزعمون، لذلك لم تكن مفاجأة كبرى للقيــــادة العراقية ولعدد من الدول التي كانت تعارض غزو العراق، ان تناقش الادارة الامريكية كيفية الرد على التهديد العــــراقي، في اول اجتماع لمجلس الامن القومي الامريكي، بعد ساعات قليلة من تدمير برجي مركز التجارة العالمي في الحادي عشر من ايلول/سبتــــمبر، وان يخرج العديد من التصريحات الامريكية الرسمية وشــــبه الرســمية التي تتهم القيادة العراقية بالضلوع في الحادث، وان تباشر الصحافة الامريكية فورا بنشر السيناريوهات المحتملة للغزو الامريكي للعراق. ولقد كان ذلك الحادث هو الراية الحمراء التي جعلت الثور الامريكي المطعون في كرامته وكبريائه يزداد هياجا ويبحث عن ساحة لاشهار بطولة زائفة، لذلك حسم امره بالخيار العسكري، ولم تنفع كل المحاولات العراقية عبر اطراف دولية، وعبر اطراف حكومية امريكية ايضا في ثنيه عن ذلك وفتح صفحة جديدة من العلاقات الصحيحة والصحية. فهل قادت القيادة العراقية الوطن الى اتون النيران الامريكية؟ وهل كان الاحتلال نتيجة النهج السياسي لما قبل العام 2003؟ ام ان الاحتلال كان قرارا ستراتيجيا تقتضيه المصلحة الامريكية؟ اسئلة اعتاد البعض من معارضي العراق طرحها في نقاشاتهم، بسبب امية الوعي السياسي التي يعانون منه، وبسبب معاداتهم للدور الاستراتيجي الذي يشكله الوطن في منطقة الشرق الاوسط ، خاصة في الصراع العربي الصهيوني والوقوف ضد الاطماع الايرانية، اضافة الى استقلالية القرار السياسي، والتصميم الواضح على جعل العراق قوة اقليمية لها القول الفصل في قضاياه. ان فكرة الاحتلال والتقسيم هي من اقدس الافكار في الاستراتيجية الامريكية لمنطقة الشرق الاوسط ، فلم تعد الكيانات التي تشكلت بعد معاهدة سايكس ـ بيكو قادرة على تلبية المصالح الامريكية في القرن الحادي والعشرين، وقد بشر بذلك بريجنسكي في منتصف سبعينيات القرن الماضي، عندما دعا الى تهديم الروابط الاجتماعية التي تشكلت منها دول الشرق الاوسط ، وتشجيع كل المكونات القومية والطائفية فيها، على تشكيل كيانات سياسية مستقلة خاصة بها، كما عزز هذا الموقف ايضا برنارد لويس مستشار الرئيسين بوش الاب والابن، الذي قال (انه من الضروري اعادة تقسيم الاقطار العربية والاسلامية الى وحدات عشائرية وطائفية ) و(تضييق الخناق على هذه الشعوب ومحاصرتها، واستثمار التناقضات العرقية، والعصبيات القبلية والطائفية فيها)، فالمنهج الامريكي الجديد المتفرد عالميا في موازين القوى الدولية بات غير مطمئن على مصالحه، في ظل وجود دول عنيدة في المحافظة على استقلالها السياسي والاقتصادي، وتختط طريقا خاصا بها في تنمية القوى البشرية الموجودة على ارضها، وتهدد الاقتصاد الامريكي والاوروبي بحرية التصرف بثروتها النفطية، واستثمار هذه الثروة في الدفاع عن حقوقها وبناء قوتها الذاتية. وبما ان النهج السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي اختطته القيادة السياسية العراقية قبل العام 2003، كان قد تجاوز كل الخطوط الحمراء التي ترسمها معادلات السياسية الدولية، خاصة بعد العام 1991، عندما تفردت الولايات المتحدة الامريكية في الساحة الدولية، ولم يعد هنالك من ضامن دولي اخر يمكن ان توازن به الدول الباحثة عن استقلاليتها مروقها السياسي والاقتصادي عن الخطوط الحمراء للقوة الاكبر الاخرى في العالم، لذلك بات الوقت مناسبا جدا لاحتلال العراق، الذي تحقق في العام 2003، ثم دفعه الى هاوية التقسيم الاثني والطائفي الذي اصبح موجودا عمليا على ارض الواقع، من خلال مؤسساته وقواه السياسية التي قدمت مع المحتل. لقد قاد نابليون بونابرت حملته على مصر حاملا مشعل الحضارة الغربية، ومبشرا بقيم الثورة الفرنسية التي كانت تدعو الى الحرية والعدل والمساواة، لكن الشعب العربي في مصر لم يقبل ان يكون هذا هو الثمن كي يرضى بالاستعمار الفرنسي، وقد اتخذ شعب العراق نفس الموقف تماما عندما قاد اعظم مقاومة وطنية ضد الاحتلال الامريكي، بقوى ذاتية ومن دون غطاء دولي او اقليمي، واستطاع ان يفشل مشروع الشرق الاوسط الكبير، وان ينقل الاحساس بجريمة الغزو والاحتلال الى كل مواطن امريكي واوروبي، من خلال الازمة المالية التي عصفت بالاقتصاد الامريكي خاصة والعالمي عامة، التي كانت احدى نتائج التصدي العراقي للغزو. كما خيب شعب العراق من كانوا يمنون انفسهم برؤية الزهور التي ستنثر على الغزاة واعوانهم لانه شعب حي، والشعوب الحية تعرف جيدا ان المستعمرين واعوانهم لا يمكن ان يكونوا بناة اوطان، بل سراق ثروات وارادات ومستقبل اجيال واوطان، وها هو المحتل واعوانه لازالوا منذ ثماني سنوات ينثرون الصدمة والترويع على ارض الفراتين، فصدق حدس شعبنا ومقاومتنا الوطنية الباسلة.