حين افتضحت اكاذيب بوش الابن لتبرير احتلال العراق، وخصوصا فيما يخص اسلحة الدمار الشامل، لجأ هذا البوش الى كذبة اكبر لمداراة خيبته امام العالم، فادعى بانه خلص الشعب العراقي من نظام ديكتاتوري واقام له نظاما ديمقراطيا بدلا عنه. واذا سولت لك نفسك وسألت عن الجرائم الشنيعة التي ارتكبت بحق العراقيين في ظل الديمقراطية المزعومة، فان عملائه واتباعه سيتهموك بالجهل، ويقولون لك هذا ثمن ولادة الديمقراطية في بلد لم يتعود عليها من قبل!!!!. هل سمعتم عن انحطاط سياسي واخلاقي بهذا المستوى المتدني؟. لسنا بحاجة لفتح جميع الملفات القديمة لدحض هذه الاكذوبة، وتكفي الاشارة هنا الى الادلة الدامغة التي ظهرت قبل وخلال وبعد الانتفاضة العراقية المباركة، كونها موثقة بالصوت والصورة وعلى الهواء مباشرة. فقبل اليوم الموعود لبداية الانتفاضة في الخامس والعشرين من الشهر الماضي، بذل المالكي جهودا مضنية لتعطيلها، وترهيب الناس من المشاركة فيها، واستخدم من اجل ذلك احقر الاساليب والوسائل. فتارة اعلن عن وجود معلومات لديه تؤكد، كما قال، على نية الارهابيين القيام بتفجيرات تستهدف المتظاهرين، وتارة اخرى اجتمع بشيوخ العشائر وقدم لهم الرشاوى لمنع ابنائهم من الاشتراك في الانتفاضة الميمونة، وثالثة طلب من المراجع الدينية اصدار الفتاوى لذات الغرض، امثال السيستاني واليعقوبي والحائري والنجفي، ورابعة اجتمع بالصحفين ووزع عليهم الاراضي لقلب الحقائق، وخامسة قطع جميع الطرق المؤدية الى الساحات الرئيسية في جميع المحافظات، وخصوصا في ساحة التحرير وسط العاصمة العراقية بغداد، واخيرا وليس اخرا اصدر قرارا بمنع التجول في اليوم الموعود. وجراء فشل هذه الاساليب الخبيثة وخروج عشرات الالوف للمشاركة في الانتفاضة في جميع المدن العراقية، قامت اجهزة المالكي ومليشياته المسلحة باستخدام كل انواع العنف بما فيها استخدام الرصاص الحي وبشكل عشوائي ضد المنتفضين، وقتل وجرح العشرات منهم، والزج بمئات اخرى في السجون والمعتقلات، والغريب ان المالكي لم يخجل من فعلته هذه وهو الذي تحدث اكثر من غيره عن القانون ودولة القانون والتجربة الديمقراطية الفريدة والدستور الدائم الى اخر هذه الادعاءات الزائفة. وبهذه المناسبة ينبغي التذكير هنا بان الكذاب نوري المالكي الذي تباهى بالدستور والاحتكام اليه كلما وجد فيه فائدة له ولحزبه، تناسى بان هذا الدستور، الذي كتبه المحتل من الالف الى الياء، قد ذكر فيما ذكر من مواد لذر الرماد في العيون، بما يتعاكس وفعلته المشينة. ففي الباب الثاني المتعلق بالحقوق والحريات، وفي الفصل الاول من هذا الباب وعلى وجه التحديد المادة 36 منه، وفي البند الاول منها، ذكر"تكفل الدولة حرية التعبير عن الراي بكل الوسائل" وذكر في البند الثالث " تكفل الدولة حرية الاجتماع والتظاهر السلمي". ومعلوم ان التظاهرات التي جرت في عموم العراق كانت سلمية الى ابعد الحدود حيث لم يحمل اي مشارك في الانتفاضة وفي كل المدن العراقية، لا سلاح ناري ولا الة جارحة ولا حتى عصا او حجر، في حين كانت مطالب الناس في البداية متواضعة جدا واقتصرت على توفير الخدمات وابسط مقومات الحياة ومحاسبة المفسدين. ترى ما الذي دفع المالكي اذن الى ارتكاب هذه الجرائم ضد انتفاضة سلمية وتحمله كل النتائج السيئة التي تترتب على ذلك، ومنها افتضاح امر الديمقراطية المزعومة الى الدرجة التي يصعب بعدها التستر عليها باي ذريعة مهما كان شكلها او نوعها؟ اما كان من الافضل له، او من مصلحته، ستر عورته واستغلال هذه المناسبة عبر حماية المتظاهرين والاستجابة لمطالبهم ليقول للعالم وشعوبه شاهدوا العراق الجديد والديمقراطية التي ينعم بها الشعب العراقي، وكيف تعاملت حكومته مع الانتفاضة على خلاف الطريقة العنيفة التي تعاملت بها حكومات مصر وتونس مع شعوبها؟. ام ان المالكي كان غبيا الى هذا الحد ليقوم بهذه الجرائم ويضيع على نفسه فرصة ثمينة كهذه؟. واذا كان المالكي غبيا فعلا، فماذا عن المحتل الذي هو الاخر بحاجة الى مثل هذه الفرصة لاثبات كذبته حول الديمقراطية في العراق؟ الم يكن بامكانه اجبار الحكومة على حماية المتظاهرين والاستجابة لمطالب الناس او بعضها، واتخاذ خطوات سريعة بطرد بعض المفسدين وتشكيل محكمة صورية لمحاسبتهم علنا؟. بل اليس بامكانه اقصاء هذه الحكومة باي وسيلة واستبدالها بحكومة اخرى اقل سوءا واقل عمالة لامتصاص نقمة الناس؟ ام ان ما حدث كان امرا محسوبا بدقة ومخطط له مسبقا ومع سبق الاصرار والترصد؟. "اخرج اخرج يا محتل... شعبي حر وما ينذل". نعم للاستقلال لا للتبعية والاحتلال، و ارحل ارحل يا محتل ... انت واذنابك منذل " نوري المالكي ونوابه. كلهم حرامية وكذابة"، هذه هي الشعارات التي كان المحتل وحكومته يخشونها منذ البداية، والتي كانت وراء هذا العنف والقتل المتعمد ضدالمنتفضين.اضافة الى الشعارات الاخرى التي اكدت على التمسك بوحدة العراق ارضا وشعبا ورفض الفدرالية والطائفية والنفوذ الايراني. ناهيك عن كون الانتفاضة حدث مرعب ومخيف بحد ذاته بالنسبة للمحتل، وتشكل ظاهرة نضالية متميزة تفرض نفسها بقوة على مسيرة الصراع ضد المحتل، كما تشكل ايضا رافدا قويا للمقاومة المسلحة، بل يرى فيها المحتل اكثر من ذلك، اذ يعتبرها اداة تفجير لكل الامكانات الثورية والابداعية لدى الجماهير وطريق للجهاد الفعال الى درجة عالية. اي ان المحتل وحكومته قد ادركوا مبكرا مخاطر هذه الانتفاضة في حال استمرت اسابيع اخرى، حيث ستنتهي حتما الى تصاعد المطالب وتحولها من مطالب اجتماعية الى مطالب سياسية تستهدف في نهاية المطاف المحتل نفسه والمطالبه برحيله، ناهيك عن ان الاستمرار في الانتفاضة، حتى في حال وقوفها عند المطالب الاجتماعية، فانها ستعزز من وحدة الشعب العراقي وترسخ مفاهيم الولاء للوطن وليس للطائفية او العرق، وهذا يعني هدم كل البناء الذي اقامه المحتل طيلة هذه السنين والذي قوامه اشاعة روح الطائفية والعنصرية بين الناس ونشر الجهل والامية عبر المرجعيات الدينية ذات العمائم السوداء والبيضاء التي تقوم وتسهر على خدمة المحتل وتكريس احتلاله الى امد غير منظور. خصوصا وان شرارة الانتفاضة قد انطلقت من المدن الجنوبية وتردد صداها في المدن الشمالية قبل انطلاقتها من مدن الوسط والغرب. بعبارة مختصرة كان لابد من القضاء على الانتفاضة الميمونة وهي في مهدها. لم يات المحتل وحكومته بما لم يات به الاوائل، فكل حكومات الاحتلال عبر عصور التاريخ المختلفة قد قامت بهذه الجرائم ضد المواطنين، كونها صممت اصلا من اجل خدمة المحتل وتكريس احتلاله وليس من اجل خدمة البلاد المحتلة واهلها. ليس هذا فحسب، وانما يسعى المحتل جاهدا الى تهديم البلد وتقسيمه وتمزيق وحدة مجتمعه. ولقد اثبتت حكومات الاحتلال الخمسة في العراق هذه الحقيقة ومثلتها باجلى صورها، حيث امعنت جميعها في سياسة القمع والارهاب والقتل والتهجير والتجويع ضد ابناء العراق وزج مئات الالاف منهم في السجون والمعتقلات وابتكار انواع من التعذيب لم تخطر على البال. بالمقابل فقد اقدمت على ارتكاب جرائم اخرى بحق العراق كبلد حيث عقدت الاتفاقات والمعاهدات التي جعلت من العراق مستعمرة امريكية بامتياز مثل الاتفاقية الامنية المشؤومة وغيرها من الاتفاقات العسكرية والاقتصادية وغيرها.والقائمة بهذا الخصوص طويلة ومؤلمة. بصرف النظر عن كل محاولات المحتل وحكومته، وعلى الرغم من كل سياساته وقراراته المسبقة بالقضاء على الانتفاضة، فان الشعب العراقي من شماله الى جنوبه وبمختلف مكوناته واطيافه وقومياته ومذاهبه سيواصل هذه الانتفاضة، او في اسوا الاحوال، فانه لن يخضع بعد الان للاحتلال كامر واقع او لحكومته، ولن يضلل بالوعود الوردية ولن يخدع بكل المتواجدين في المنطقة الخضراء، وهذا ليس بالامر الغريب على شعب حي كشعب العراق الذي انتج بعد الاحتلال مباشرة المقاومة العراقية الباسلة. هذه الانتفاضة تعيد للاذهان انتفاضات وثورات الشعب العراقي الباسلة ضد الاستعمار البريطاني وضد حكوماته العميلة، بدا بثورة العشرين المجيدة ومرورا بثورة 1941 وانتهاءا بالانتفاضات التي حدثت في عام 1948 52 و56 والتي توجت بثورة 14 تموز الخالدة. ما يكدر هذه الصورة المشرقة دخول بعض ممن يحسبون انفسهم ضمن معسكر المقاومة على خط الانتفاضة، تحت مسميات رنانة، مثل محلل استراتيجي او صاحب مركز دراسات او خبير سياسي او مفكر مقاوم، وهم في حقيقة الامر مجموعة من الانتهازين والوصوليين والحالمين بمناصب وزارية او اقل منها. حيث دعوا الى حصر مطالب الانتفاضة باسقاط الحكومة وتشكيل حكومة تكنوقراط على امل ايجاد مكان لهم في الحكومة الجديدة، في حين تجاوزت الانتفاضة هذه المطالب ووصلت حد المطالبة برحيل الحكومة والاحتلال معا. والمصيبة هنا هي ادراك هؤلاء للفرق الكبير بين اسقاط الحكومة واسقاط النظام الذي صممه المحتل بطريقة لا تتمكن اي حكومة من الخروج عليه الا في حال رحيله. كان من الاجدر بهؤلاء توظيف امكاناتهم وخبراتهم نحو تشجيع الانتفاضة على تصعيد مطالبها، والتاكيد على مطلب رحيل الاحتلال قبل المطالبة بتوفير الخدمات الضرورية للحياة كالماء والكهرباء والغذاء والدواء. وكما قلنا في مقال سابق، اذا لم يتوجه العراقيون الى القضاء على السبب فلا امل في القضاء على نتائجه، حيث التدهور الذي حصل في كل مرافق الحياة كان نتيجة للاحتلال، واذا لم يتم القضاء على الاحتلال، فانه لا يمكن انهاء معاناة العراقيين في كل مجالات الحياة. واذا حدث تغيير فانه لن يتعدى بعض الاصلاحات الترقيعية والتي هي اشبه بالمسكنات التي تخفف عن المريض الامه ولا تقضي عليها. آن الاوان لان تشارك جميع الاحزاب والقوى السياسية المعادية للاحتلال وبكل ثقلها في هذه الانتفاضة وتعمل على توجيه مسيرتها وتنظيم شعاراتها وادارة الية تحركها ووضع الخطط اللازمة لمواجهة التامر عليها، وتضرب لهم المثل في التضحية والفداء، في حين ينبغي على فصائل المقاومة العراقية تصعيد عملياتها العسكرية ضد المحتل وضد السلطة واجهزتها القمعية، وبالذات ضد تلك التي تتصدى للانتفاضة وتمارس عمليات القتل ضدهم، خصوصا وان البيان الثاني لفصائل المقاومة العراقية قد اعتبر المقاومة في حل عن بيانها الاول، الذي اعلن عن وقف العمليات العسكرية خلال ايام الانتفاضة، لكي لا يتخذ المحتل منها ذريعة لممارسة العنف والقوة ضدها. ان هذه الاحزاب والقوى المناهضة للاحتلال اضافة الى فصائل المقاومة لقادرة على القيام بمثل هذا العمل النبيل، كونها تحظى باحترام وتقدير عموم الشارع العراقي.