إذا كانت الثورات الشبابية العربية المسالمة التي إنفجرت على نحو متزامن في عدة بلدان، أولها تونس في 14 يناير/كانون الثاني، ثم مصر في 25 من ذلك الشهر، لتصل إلى ليبيا في 17 من هذا الشهر الجاري الذي سبق ما خطط له شباب العراق بأسبوع من الزمن. وإذا كانت هذ الثورات المتصاعدة والممتدة من المشرق العربي إلى مغربه هي رد فعل طبيعي ضد الظلم والطغيان والفساد والإستبداد الذي ساد أمة العرب عبر أنظمة جائرة قمعت الحريات ونهبت الخيرات وخضعت للإرادة الأمريكية والصهيونية التي زادت من قهر وتقهقر الأمة. أقول إذا كانت هذه الثورات لها خصوصية الوقائع بحسب محيطها ومعطياتها، فإن أهم وأخطر ما يميز ثورة 25 شباط / فبراير بأنها لا تتعلق بكسر حاجز الخوف النفسي، فالمظاهرات والمسيرات لم تتوقف في عموم العراق منذ إحتلاله عام 2003، وكذلك لا تنحصر في التخطيط الناجح الذي سار على خطى ثورة شباب مصر العروبة، بل إنها تعرضت لإمتحان سريع ومفاجيء قبل 24 ساعة من التنفيذ. إذ أن المرجع الديني الأعلى علي السيستاني أفتى بعدم الخروج والمشاركة في هكذا تظاهرات، بحجة تعريض النظام العام للخطر. وعلى هذا النمط جاءت فتاوي اليعقوبي والحائري وآصفي وغيرهم. وكذلك قدوم مقتدى من إيران، بشكل مباغت من أجل هذا الغرض السلبي. دون شك إن هذا التحرك المتعمد على الجانب الديني جاء دعماً وإسناداً للتحرك السياسي لحكومة الاحتلال الخامسة التي يرأسها المالكي الذي يصرح بدستورية هذه المظاهرات، ثم يعمل على قمعها بطريقة وحشية قاسية. إن هذا التحرك أو اللعب على أوتار العزف الطائفي له ردود فعل حساسة وخطيرة يخشاها كل وطني عراقي. خصوصاً عندما أفتى علي خامنئي على طريقة المنع السيستانية. ولا ندري مَنْ الذي أباح لجلاد إيران أن يتدخل بالشأن العراقي وبمنهج سافر وتعس. عندما كلفني بعض الأخوة والأصدقاء بتنظيم التظاهرة أمام السفارة العراقية في لندن، ووفقاً للتخطيط السلمي والحضاري بتنفيذ في ما أتفق على تسميته يوم "جمعة الغضب"، أتصلت بالسلطة المحلية البريطانية وتم لنا ما نريد بغية دعم المسيرات والمظاهرات الإحتجاجية في داخل العراق الحبيب. وعندما هتفناً عالياً بصوت واحد: "أخوان سّنة وشيعة هذا البلد ما نبيعه". كان حشدنا عبارة عن عراق مصغر من مختلف مكوناته المذهبية والدينية والقومية؛ وخلال الساعتين من وقت التظاهرة، كنا على إتصال بالداخل لكي نعرف آخر المستجدات. ولم يساورني الشك بأن شباب العراق الواعي سيتجاوز ما خطط له الطائفيون، ولكن القلق والخوف من أجل الحرص على هدف وطني بحت، يبقى أمراً صحياً يستوجب التفكير والتمعن فيه. ثم علا صوتنا مدوياً بكلمة "الله أكبر"! حيث جائنا خبر إسقاط الحاجز الإسمنتي من على جسر الجمهورية، وإن المتظاهرين إتجهوا نحو المنطقة الخضراء، ليسقط منهم شهداء يرون بدمائهم الزكية أرض الوطن العزيز على كل حر غيور شريف. إن ثورة 25 شباط/فبراير قد نجحت بتجاوزها الحاجز الطائفي، ورمت أرضاً ورقة الإفتاء التي تتعارض مع الحق الجماهيري وإرادته الشعبية، وتصطف بجانب الباطل على أُسس وهمية وتبريرية لا علاقة لها بما يجري على أرض الواقع. فالعراق سيدخل في الشهر القادم سنته التاسعة من الإحتلال العسكري الأمريكي والإحتلال السياسي الإيراني. ولقد عانى العراقييون، وما زالوا يعانون، من دمار وقتل وتشريد وسرقة للمال العام ونهب لثروات البلاد، وخلال هذه السنين قد تكشفت الكثير من الخفايا والأسرار، وإنفضحت فيها الوجوه التي تسترت بأسم "المظلومية" أوغيرها، وأصبح الشعب العراقي الآن على دراية تامة بما يحيق به حتى من الذين يحتلون رمزية المرجعية الدينية. نعم إن الشباب العراقي في ثورته السلمية الحضارية التي سادت معظم أنحاء وأرجاء البلاد، قد أثبتوا بأنهم ذوو وعي وإدراك تجاه الأحداث، ويتمتعون بعقلية تعلوا على هرطقات أو إفتاءات دينية مشبوهة تصب في صالح الطالح، لا الشعب المنكوب والمبتلى بهذه القيادات السياسية والمرجعية الدينية التي لا تمت بصلة صادقة وحقيقية لمعاناتهم المريرة والمضنية. مرحى لهذه الثورة التي إستطاعت بأول خطواتها أن تجابه أحابيل المعممين ورصاص السياسيين، لتدخل في إنطلاقتها تاريخاً وطنياً سامياً سطره لها شهدائها الذين تجاوزوا العشرين شهيداً. وقادم الأيام سيشهد المزيد من التضحيات من أجل عراق الغد. فالشعب يريد تحرير العراق.