تميّزت الثورة في تونس بعفوية انطلاقتها و بجماهيريتها و سرعة إنجازاتها. فقد استطاعت أن تطيح برأس النظام في أقل من شهر بعد انطلاقتها و أن تسقط حكومة الوحدة الوطنية المزعومة بعد أقل من عشرة أيام من تنصيبها و توصلت إلى فرض حرية التعبير و الصحافة و الاعتراف بحق تكوين الأحزاب و الجمعيات و الإقرار بالعفو التشريعي العام و تمكنت من إجبار الحكومة المؤقتة على تشكيل لجان وطنية المتخصصة في الإصلاح و تقصّي الفساد. كل هذه المكاسب تحققت في أقل من ثلاثة أسابيع بداية من إسقاط الطاغية بن علي. بطبيعة الحال ما تحقق هو جزء من برنامج الثورة و ليس الكل و حتى الذي تحقق لن يتخذ البعد الذي يخدم الثورة إلا متى استطاعت القوى الشعبية صيانة مولودها الجديد. انطلقت إذن هذه الثورة بعفوية لكن سرعان ما وقع احتضانها من الاتحاد العام التونسي للشغل المنظمة النقابية الوحيدة المعروفة بامتداد فروعها في كامل ولايات (محافظات) القطر و بنضاليتها التي جعلتها المنظمة الوحيدة المستقلة عن نفوذ و قرارات النظام السابق و المعروفة كذلك باحتضانها لكل التيارات السياسية المعارضة من خلال الانتماءات السياسية للنقابيين المنضوين تحت لوائها. نتيجة لهذا تسربت انتفاضة الشباب عبر قنوات اتحاد الشغل لينشرها النقابيون في كافة شوارع القطر و تتحول إلى ثورة شعبية عارمة. لقد تنحى بن علي بعد يوم من الإضراب العام في كل من محافظات صفاقس و تونس العاصمة و المسيرتان الضخمتان اللتين تلته.إلى حدّ يوم هروب الطاغية كانت الأحزاب السياسية الغير معترف بها غائبة عن الساحة بحكم ما كان يسلط عليها من قمع و تنكيل ، و عمليا يمكن القول أن هذه الأحزاب لم تشرع في عملها السياسي بصفتها الحزبية سوى بعد رحيل بن علي مباشرة و بالتالي لم تكن مهيّأة للمسك بزمام قيادة الحركة الجماهيرية . غير أنها سرعان ما بدأت تحاول فرض وجودها على الساحة بمجرد الاستفادة من الرصيد الجماهيري الذي ركمه أعضاءها النقابيين . كل ذلك مكّن دفعة أولى من ثمانية أحزاب يسارية و قومية من تشكيل جبهة سموها جبهة 14 جانفي . مسار الثورة في تونس كان استثنائيا . انطلق بحركة جماهيرية عفوية و انضمت إليها الحركة النقابية ثم التحقت بهم الأحزاب السياسية الثورية. ما يجب استنتاجه من هذا المسار الاستثنائي هو أن الجماهير كانت مستعدة للتحرك و المواجهة من أجل انجاز مهام كبرى لكن بحكم غياب البرنامج السياسي و عدم تلقي هذه الجماهير لتربية سياسية ثورية و عدم امتلاكها لتقاليد العمل السياسي فقد وجدت نفسها غير مهيأة لخوض معارك سياسية قادرة على إنجاز كامل مهام الثورة . فتراها تحت تأثير قلة الخبرة تركن أحيانا للراحة حين تستقر الأوضاع معتقدة أن مسار الثورة سيكتمل بصورة آلية، لكنها سرعان ما تنهض حين ينتابها الخوف من قوى الردة و تشعر بهجوم من السلطة قد تؤدي إلى الانقضاض على ما تحقق من مكاسب. في هذه المرحلة الدقيقة للثورة عادت الأدوار إلى شكلها الطبيعي ، إذ شرعت الحركة السياسية في أخذ المشعل من المنظمة النقابية لتعطي برنامج اكمال الثورة طابعا جذريا و ثوريا و لتتجاوز تردد القيادات النقابية التي لم ترى في الحكومة الانتقالية الحالية سوى سلبية واحدة متمثلة في كونها قامت بالاعتداء بالقوة على المعتصمين أمام مقر الحكومة . على خلاف ذلك تعتبر جبهة 14 جانفي و بقية الأحزاب و الحركات التي لم تنضو بعد أن الحكومة الانتقالية هي حكومة غير شرعية بحكم أن من يسيّرها هو أحد رموز النظام السابق كما تعتبر أن الثورة لم تكتمل طالما لم تتحقق المطالب المتعلقة بحل حزب التجمع الذي كان يحكم و عزل كافة المسؤولين الذين لهم صلة بالنظام السابق و ضرب كل المؤسسات التي استند عليها النظام السابق. الثورة في تونس اتخذت اليوم طابع الصراع المفتوح بين قوى الثورة و بقايا رموز النظام السابق داخل السلطة هذا الصراع سيتخذ أشكالا عديدة سواء كانت سياسية أو فكرية و بطرق هادئة أو احتجاجية ستحاول الجماهير فرض تصورها و نهجها من خلال المؤسسات أو بواسطة الشارع. سنعيش صراعا طويلا قبل أن تنجز كامل مهام الثورة. جبهة 14 جانفي استهلت هذه الصفحة الجديدة من الصراع بالشروع في بناء أدوات الثورة بتشكيل " المؤتمر الوطني لحماية الثورة " الذي يضم كافة الأطراف السياسية و الجمعيات و المنظمات النقابية و الحقوقية و الشبابية و الهيئات الثقافية و الشخصيات المستقلة و دور هذا المؤتمر إيجاد الآليات و أدوات مراقبة مسار الثورة و ضمان إيجاد الظروف لتحول ديمقراطي جذري. إحدى صفحات هذا الصراع تنبئ باحتجاجات جماهيرية جديدة نتيجة إقدام الحكومة يوم أمس 03/01/2011 على تعيين أغلب الولاة (رؤساء المحافظات) و مديري الإذاعات من التجمع الدستوري الديمقراطي. و يبقى السؤال المطروح هل تتوصل القوى السياسية الثورية إلى بلورة البرنامج الكامل لبناء المجتمع الوطني الديمقراطي في أسرع الأوقات حتى تؤسس لعمل ثوري يضمن تحقيق الأهداف الوطنية الجذرية. و هل تعزز هذه القوى البعد العربي للثورة خاصة بعد استلام الشارع المصري مشعل التغيير من الشعب التونسي ؟