لا شك بأن المشهد العربي من المحيط إلى الخليج هو مشهد الرغيف والكرامة. وهو مشهد مُرٌّ بكل معاني الكلمة، تأكل فيه غيلان الاستعمار وسماسرته رغيفنا وكرامتنا. إن حكاية الأمة العربية الآن مع الاستعمار هي حكاية الساكت عن حقه بينما الاستعمار يسرق هذا الحق متعاوناً مع شُللٍ من نخب هذه الأمة ممن أتقنوا فن الفساد واللصوصية. وتعاون فيه الطرفان على تأسيس أنظمة سياسية حاكوا فيه تشريعات وقوانين تتيح لهم سرقة الثروات تحت أغطية من الشرعية الرسمية، وقد سخَّروا لحمايتهم أجهزة من القمع التي تستخدم أقذر الأساليب لتطويع إرادة الشعب وتطبيعها، ومن المؤسف أن تكون أعمدة تلك الأجهزة من الطبقة المسحوقة ذاتها لتلك التي تخضع حقوقها لقوة السلب والنهب المنظَّم. فينال الفاسدون من التخمة الشيء الكثير، كما تتكدس الثروات في جيوب رأسماليي الاستعمار، بينما لا تحصد الأكثرية الساحقة من الشعب إلاَّ المزيد من الجوع والمهانة. قد يكون واقع الكفاف الشعبي مقبولاً إذا كانت موارد الدول ضعيفة وقاصرة عن تلبية حاجات المجتمع، ولكن هل يكون الكفاف مقبولاً إذا كانت موارد الدولة وثرواتها كثيرة وغنية؟ أمتنا ليست فقيرة، بل هي تنام على أكبر احتياطي من ثروات العالم. وجماهير أمتنا أصبحت كالعائم على محيطات من الماء بينما يقتلها العطش. وهم كالنائم على أرض يمكنها إنتاج أكبر إهراءات العالم من القمح بينما الجوع يقتلها. كل هذا الواقع الذي يدل على الغنى والثروة الفاحشة، وكل هذا الواقع من السكوت والصمت الذي يلف شارع الجماهير العطشى والجوعى من المحيط إلى الخليج، كان يدعو إلى اليأس والإحباط. رغيف الأمة، بمعنى جماهيرها الواسعة الجائعة، شديد المرارة لأنه مجبول ليس بالعرق فحسب، بل مجبول بعار صمت تلك الجماهير وسكوتها عن استعادة حقها بقوة السيف أيضاً. رغيف الأمة، بمعنى السماسرة الذي يسرقونه من أفواه الجياع، شديد المرارة لأنه لا أحد يرشقهم بحجر واحد من الاعتراض، فيغرقون أكثر بوسائل السرقة والنهب إلى حدود قتل من يعترض أو يتمرد. رغيف الأمة، بمعنى الرأسمالية التي تحتل الدول بشكل مباشر أو غير مباشر لامتصاص خيراتها وسرقة ثرواتها، شديد المرارة لأنه لا أحد يتمرد على الاستعمار ويرشقه بحجر واحد ليرغمه على الهروب، ليترك ثروات الأمة للأمة. رغيف الأمة، بمعنى تقطيع أوصالها لتتكامل بالثروات واستخراج هذه الثروات، شديد المرارة لأن الشعب العربي أُخِضع لثقافة التجزئة والتفتيت وأُغْرِق بثقافة الطائفية والمذهبية. رغيف الأمة مُرٌّ لأن ثقافة الشعب العربي أخذت تعتبر بأن لكل دين رغيف، ولكل مذهب رغيف، وابتعدوا عن اعتبار الرغيف رغيفاً عربياً، والجوع جوعاً عربياً، والمرض مرضاً عربياً. وهو مرٌّ أيضاً وأيضاً إذ أصبحت الثروة في القطر الواحد تتوارثها طبقة الأغنياء والملوك والأمراء أباً عن جد، كما أصبحت الثروة القومية ثروة لكل قطر يرثها ويبددها كما يشاء، ويتنازل عن الجزء الأكبر منها لتمتلئ بها بطون حيتان الرأسمالية بينما بطون أبناء وطنهم خاوية خالية فارغة يغزوها الجوع، ويحكمها العطش. فما يحصل في تونس ومصر، وما هو مقدَّر له أن يحصل في الأردن واليمن، و.. و..، ما هو إلاَّ إنذار وبشير تفاؤل يدل على أن الرغيف العربي المجبول بالمرارة قد سبَّب ثوران بركان الجياع الذي لن يهدأ إلاَّ بعد أن يعيد التوازن، ولو بحده الأدنى، بين تخمة الفاسدين وجوع الجائعين. وإن كان ما حصل ستكون له تداعيات تعود بالإيجابية على الحراك الشعبي العربي الراهن، إلاَّ أن صورة الجوع سوف تعود إذا استسلم الشعب لموجة خداع جديدة ستمارسها بقايا الأنظمة الرسمية الساقطة ممن يُعتبرون احتياطاً تُنتجهم تلك الأنظمة. أو استسلم لخطاب الرأسمالية التي تتباكى على حقوق الشعب، وهي مخادعة تنتهز فرص التغيير، من أجل تمرير وكلائها المقنَّعين لتثبيت مواقعهم على رأس الأنظمة الجديدة التي فرضتها دماء الكادحين الثائرين. وإن كان ما حصل سيتعرض إلى ثورة مضادة من الرأسمالية ووكلائها من أجل تقليص حجم الضرر الذي سيلحق بها في المستقبل القريب، إلاَّ أنه لا يجوز أن ترهن الحركة الثورية الحراك الشعبي في المستقبل لردات فعل عفوية، بل لا بُدَّ من أن يكون بناء حركة حزبية ذات آفاق وطنية وتحررية هدفاً عليها أن تنجزه في وقت قياسي تُعيد إحياء ما تمَّ تهديمه في بنية الأحزاب السابقة طوال عقود. وما الحؤول دون بناء حزب عربي جديد، بمعنى أن يعمد كل حزب إلى إعادة تأهيل بنيته الداخلية، إلاَّ من أجل إبقاء العفوية الشعبية مجرَّدة من البوصلة التي تصوِّب لها اتجاهاتها وتقلل من خطواتها الناقصة. ولكي تعود للرغيف العربي حلاوته لا بُدَّ من أن تعمل كل أحزاب الأمة العربية، وفي المقدمة منها الأحزاب والحركات والقوى ذات الاتجاهات القومية، على صياغة قواعد وأسس تلم شملها في حركة منسَّقة ومتعاونة ليصبح صوتها أكثر دوياً وأكثر تأثيراً. وهل سينام شهداء الثورتين في تونس ومصر في جناتهم آمنين مطمئنين؟وهل سيبلسم الحزب العربي الجديد جراح من لا يزالون قيد العلاج في المشافى؟